الجسد السياسي: التواضع والإنسانية في القيادة

السياسة ليست مجرد نصوص وخطابات، بل حضور حي يتجلى في وقفة القائد، في نبرة صوته، وفي طريقة تحيته أو ابتسامته. بعض الزعماء يستخدمون لغة الجسد لإبراز السلطة والهيمنة كما سبق أن ذكرت في أكثر من مقال، بينما آخرون يحوّلونها إلى مساحة للتباسط والانفتاح على الآخر، مما يعكس قربهم من الناس وفهمهم لتجربتهم الإنسانية.
العديد من القادة الذين تركوا بصماتهم في مجتمعاتهم لم يولدوا في قصور فخمة، بل نشأوا في أحياء شعبية وقضوا سنواتهم الأولى وسط أناس طبيعيين. هذه التجربة جعلتهم أكثر إدراكًا لمعنى البساطة، وأكثر قدرة على التواصل بصراحة وبدون حواجز بروتوكولية صارمة. إذا أضفنا الخلفيات الصوفية أو الدينية، فإن ذلك يعزز ميلهم للسكينة والمرونة، ويجعل لغة أجسادهم تعكس التواضع والود بدلًا من فرض الرهبة.
لفهم كيف يترجم هذا التواضع في الممارسة العملية، يكفي النظر إلى اللقاءات الدولية الشهيرة. على سبيل المثال، المصافحة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والسيد الرئيس عبد الفتاح السيسي. ترامب معروف بمصافحاته الاستعراضية، حيث يشد يد محاوره بقوة محاولًا فرض الهيمنة. لكن في لقائه مع السيسي، جاء السلام بروتوكوليًا هادئًا ومتوازنًا، عكس الاحترام المتبادل والندّية، دون أن يتحول إلى استعراض جسدي.
وليس القرب من الناس مقتصرًا على هذه الحالة فقط، بل يُرى أيضًا في تجارب قادة عالميين آخرين. نيلسون مانديلا، الذي تربى في بيئة بسيطة في جنوب أفريقيا وعاش سنواته بين شعبه، كان يعرف كيف يستخدم جسده للتواصل والطمأنة، مبتعدًا عن التظاهر بالسلطة. في لقاءاته الرسمية، غالبًا ما كان يبتسم ويصافح بيد ثابتة ولطيفة، مما خلق إحساسًا بالثقة والاحترام المتبادل، عكس القادة الذين يعتمدون على لغة جسد صارمة لفرض الهيمنة.
فروقات التعامل الشخصي
حتى في مناسبات دولية أخرى، تظهر الفروقات في التعامل الشخصي بوضوح. فقد اضطر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للانتظار في أحد شوارع نيويورك أثناء مرور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بينما قادة آخرون يظهرون تباسطًا حقيقيًا، ينزلون من سياراتهم لرد التحية على الناس وجبر خواطر العجائز. هذه اللحظات الصغيرة تعكس كيف يمكن للجسد والحركة أن تكون أداة للتواصل الإنساني أكثر من أي بروتوكول رسمي، وتُظهر مدى احترام القائد للناس وفهمه لتجربتهم الإنسانية.
القادة الذين نشأوا بين الناس أو تشبعوا بروحهم الشعبية يميلون بشكل طبيعي إلى كسر الجمود البروتوكولي: يلقون التحية ببساطة، يمازحون الناس بصدق، ويتعاملون بمرونة حتى في المواقف الرسمية. هذا الأسلوب يعزز العلاقة الوجدانية مع الجمهور، إذ يرى الناس القائد واحدًا منهم، ابن الحي الذي يعرف كيف يتحدث بلغتهم ويتحرك بينهم بلا حواجز.
السياسة المعاصرة بحاجة إلى هذا النموذج: جسد سياسي إنساني يفتح مجالًا للتواصل، بدلًا من الانغلاق في صورة سلطوية متخشبة. الجسد المتباسط لا يلغي البروتوكول، لكنه يطعّمه بلمسة إنسانية تجعل اللقاء طبيعيًا، وتحفظ الاحترام المتبادل.
بين نموذجين متباينين ـ جسد يفرض الرهبة وجسد يفتح مساحة للتواصل ـ يتحدد أي ثقافة سياسية نريد أن تسود. الأولى تكرّس التسلط والانغلاق، والثانية تعزز الانفتاح والمشاركة. السياسة، مهما تعقدت حساباتها، تظل فعلًا بشريًا، والقائد مهما علا شأنه يظل إنسانًا لا نصف إله.
إن نشر مثل هذا الوعي حول لغة الجسد السياسي، وفهم قيمة التواضع والإنسانية في القيادة، يمكن أن يكون بداية لحملة أكبر تهدف إلى تعزيز القيادة الودودة والمتواضعة في السياسة، وتشجيع القادة على التواصل المباشر والصادق مع الناس، بعيدًا عن الهيمنة والصرامة الزائدة.