و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

منذ أيام، خرج بنيامين نتنياهو بابتسامة المنتصر، ليبشرنا – وكأنه يخاطب التاريخ نفسه – بأن حلمه بإقامة "إسرائيل الكبرى" بات قاب قوسين أو أدنى، وأن الخرائط في جيبه جاهزة لضم مصر والأردن وسوريا، وربما لو أطال الحديث لأضاف نصف القارة الإفريقية، والقطبين الشمالي، والجنوبي.

لكن المفارقة أن ما يراه نتنياهو إسرائيل الكبرى، يراه العالم اليوم إسرائيل الصغرى، يراه كيانا مأزوما، محاصرا داخليا، تتآكله أزماته السياسية، وتطارده انقسامات المجتمع، بينما تنفجر في وجهه جبهات الشمال والجنوب، ويصبح كل مشروعه التوسعي مجرد فقاعات هواء في فنجان سياسة مكسور.

ما لم يخبر به نتنياهو أن إسرائيل الكبرى التي يسوّقها على منابر السياسة، صارت في وعي كثيرين إسرائيل المرتبكة، التي لا تعرف كيف تخرج من حرب غزة، ولا كيف توازن بين الضغط الأمريكي، والانتقادات الأوروبية، والغضب الشعبي العالمي.

جيشه الذي كان يتباهى بأنه "لا يُقهر"، صار يحتاج لمئات الآلاف من جنود الاحتياط، وميزانيات إضافية بمليارات الدولارات، فقط ليستمر في معركة استنزاف لا تنتهي.

من كان يخطط لتوسيع حدوده إلى النيل والفرات، صار بالكاد يحافظ على سيطرته على شريط ساحلي صغير، بينما تتآكل صورته أمام حلفائه قبل خصومه.

"إسرائيل الكبرى" التي يتغنى بها نتنياهو، تشبه شخصًا يخطط لشراء فيلا على البحر، بينما سقف بيته يتسرب منه المطر، وأثاثه يأكله العفن.

اللافت أن هذه التصريحات ليست جديدة على قادة تل أبيب، فمنذ قيام الكيان وهم يبيعون لشعبهم أوهام "التوسع" للتغطية على إخفاقاتهم الداخلية. لكن ما يجهله نتنياهو أن عالم 2025 ليس عالم 1967، وأن الشعوب التي كان يظن أنها ستخضع بسهولة، أصبحت أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على كشف ألاعيبه، وأكثر صمودا في مواجهة غطرسته وبلطجته السياسية.

اليوم، كلما تحدث نتنياهو عن مشروع "إسرائيل الكبرى"، يبتسم خصومه ساخرين، فالمشهد على الأرض يقول العكس تمامًا، فالكيان يخسر معركته في الرأي العام العالمي، ويتراجع اقتصاديا، ويعيش أزمة ثقة داخلية مع نفسه، وبينما يرفع شعار التوسع، الواقع يفرض عليه الانكماش حرفيا، ومعنويا.

هو يريد أن يقنع العالم بأن الخريطة التي رسمها في مخيلته ستتحول إلى واقع، وكأنه ينسى أن الواقع لديه الآن لا يحتاج خرائط جديدة، بل يحتاج خرائط إنقاذ من الغرق،  فـإسرائيل الصغرى اليوم لا تسيطر على شوارعها كما كانت، ولا حتى على خطابها الداخلي الذي صار مليئا بالشتائم المتبادلة بين وزراء حكومته، وكأننا أمام برنامج توك شو من العيار الثقيل، لا مجلس وزراء لدولة نووية.

أما مشروع "التمدد" الذي يتحدث عنه، فهو يشبه شخصا يحلم بفتح سلسلة مطاعم في العالم، بينما مطبخه الحالي يحترق وحلة الضغط تنفجر في وجهه.

نتنياهو الذي كان يبيع الوهم لجمهوره عن أن الأمن لا يأتي إلا بقوة السلاح، وجد نفسه أمام مقاومة لا تعترف بقواعد لعبته، مقاومة تعيد تعريف المعركة من جديد، فبعد أشهر من الحرب على غزة، لم ينجح لا في القضاء على المقاومة، ولا في إعادة هيبة جيشه الذي كان يروّج له كـ"الأسطورة العسكرية".

الطريف أن الإعلام الإسرائيلي نفسه بدأ يستخدم مصطلحات من نوع "المأزق" و"المستنقع"، وهي كلمات كانت حكرا على الصحافة العربية حين تصف الكيان.

وعلى الجبهة السياسية، فإن "إسرائيل الكبرى" صارت مسرحًا مفتوحًا للمشاحنات بين نتنياهو وخصومه، بل وبين وزرائه أنفسهم، حتى أن بعضهم صار يلمح علنًا أن الرجل يعيش في "فقاعة" لا علاقة لها بما يجري على الأرض.

اقتصاديا، تضخمت الفاتورة إلى درجة أن المليارات التي كانت توجه للتكنولوجيا والزراعة صارت تذهب إلى شراء الذخيرة وإطالة أمد الحرب. وكلما زاد إنفاقه العسكري، زاد العجز في ميزانيته، وزادت أصوات الاحتجاج في الشارع العبري.

التطبيع

أما على مستوى العلاقات الخارجية، فنتنياهو الذي كان يتباهى بـ"التطبيع" مع دول عربية، اكتشف أن تلك العلاقات هشة، وأن مشهد الأطفال تحت الأنقاض في غزة أقوى من أي اتفاقيات، وأسرع في هدم ما بناه من جسور سياسية على الورق.

ما لم يدركه نتنياهو بعد، أن "إسرائيل الكبرى" قد تبقى حلما يزين به خطاباته، لكن "إسرائيل الصغرى" هي الواقع الذي يطارده،  واقع الانكماش، والانقسام، والانكشاف أمام العالم.

قد يحاول أن يرسم خطوطًا جديدة على الخرائط، لكن الحقيقة أن تلك الخطوط لا تمتد إلا داخل عقله، وأنه مهما حاول أن يبيع الوهم، فإن شاشات الأخبار، وصور المقاومة، وصرخات الغضب في الشوارع العالمية، ستظل تكتب النسخة الحقيقية من القصة: قصة كيان كان يظن نفسه أكبر من المنطقة، فاكتشف فجأة أنه أصغر من مواجهة الحقيقة.

ولأن التاريخ لا يرحم، فربما سيأتي يوم تدرس فيه قصة "إسرائيل الكبرى" ضمن مادة "الخيال السياسي" إلى جوار حكايات يوتوبيا، وأرض الميعاد، مع ملاحظة صغيرة أسفل الصفحة تقول: انتهت القصة قبل أن تبدأ… بسبب سوء الإدارة، وكثرة الثرثرة.

سيقرأها الطلاب وهم يضحكون، وسيتساءلون: كيف لرجل يملك جيشًا، ودعمًا غربيًا، وسلاحًا نوويًا، أن يخسر أمام أطفال حفاة يطاردون دباباته بالحجارة والكاميرات؟

الإجابة بسيطة: لأن القوة بلا عقل، مثل صاروخ بلا بوصلة، ينتهي به المطاف إلى ضرب صاحبه في رأسه. وها هو نتنياهو، بخرائطه وأحلامه المبللة، يعيش في "إسرائيل الصغرى" التي لم تعد تكبر إلا في خطاباته، بينما على الأرض، تتقلص كل يوم.

تم نسخ الرابط