و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

 الحوكمة الإعلامية تمثل اليوم إحدى أهم الآليات الضرورية لإدارة المشهد الإعلامي في ظل ما يشهده العالم من تدفق غير مسبوق للمعلومات وتوسع الفضاء الرقمي، وهي آلية تختلف جذرياً عن الرقابة التقليدية التي اعتادت الأنظمة فرضها على وسائل الإعلام، لأنها لا تقوم على المنع أو الحجب، بل على وضع منظومة متكاملة من القواعد والآليات التي تضمن الشفافية والمساءلة والمهنية، وتوازن بين حرية التعبير من جهة والمصلحة العامة من جهة أخرى، جوهر الحوكمة يكمن في اعتبار الإعلام سلطة مجتمعية رابعة مسؤولة أمام الجمهور، وهو ما يتطلب مؤسسات تنظيمية مستقلة وإرادة سياسية تؤمن بأن قوة الدولة في وجود إعلام حر ومسؤول لا إعلام تابع أو فوضوي.
 
تقوم الحوكمة على عدة مرتكزات أساسية؛ أولها الشفافية، بحيث تكون ملكية الوسائل الإعلامية ومصادر تمويلها واضحة للرأي العام، بما يمنع تضارب المصالح ويحد من تغول رأس المال على التوجهات التحريرية، ثانيها المساءلة، وهي خضوع المؤسسات الإعلامية والإعلاميين إلى ضوابط مهنية وأخلاقية مقررة في مواثيق معلنة، مع وجود هيئات قادرة على مراقبة الأداء ومحاسبة المخالفين بطرق متدرجة تراعي الحرية والمسؤولية في آن واحد، ثالثها الفعالية، أي أن يُسهم الإعلام في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن يتجاوز مجرد كونه منبراً للصراعات السياسية أو أداة لتسويق الدعاية، ورابعها العدالة التي تضمن تنوع الأصوات والآراء، وتكافؤ الفرص بين المؤسسات الصغيرة والكبيرة، وعدم ترك الساحة محتكرة من قبل قوى بعينها.
  
النماذج الدولية تقدم شواهد مهمة على نجاح الحوكمة الإعلامية في إحداث التوازن المطلوب، ففي بريطانيا مثلاً تمثل هيئة أوفكوم Ofcom نموذجا رائدا في الإشراف على قطاعات الإعلام والاتصالات، حيث تتمتع بصلاحيات واسعة في مراقبة المحتوى وضمان التعددية والشفافية، وتفرض عقوبات على المؤسسات المخالفة دون تدخل مباشر من الحكومة، وفي ألمانيا، تعمل المجالس الإعلامية الإقليمية على مراقبة القنوات ومحطات البث وضمان التزامها بالمعايير المهنية والقانونية، مع مراعاة الاستقلال التام عن السلطة التنفيذية، مما يخلق بيئة إعلامية متوازنة تحمي المجتمع من خطاب الكراهية أو التلاعب السياسي أما في كندا، فإن هيئة الإذاعة الكندية تعد نموذجاً لإعلام عام ممول من الدولة لكنه مستقل إدارياً ومهنياً، ما يضمن تقديم محتوى متوازن وملتزم بالمعايير المهنية بعيداً عن الانحياز الحزبي أو التجاري، حتى في الدول الإسكندنافية، حيث تتصدر مؤشرات الشفافية والحرية الصحفية، نجد أن الحوكمة الإعلامية تقوم على مؤسسات مستقلة وأطر قانونية دقيقة تضع حدوداً واضحة لملكية وسائل الإعلام وتضمن تنوعاً واسعاً في المحتوى.

 ضرورة عملية

هذه النماذج تبرز أن الحوكمة ليست ترفاً فكرياً بل ضرورة عملية لحماية المجتمعات من مخاطر الفوضى الإعلامية التي قد تتحول إلى تهديد مباشر للاستقرار السياسي والاجتماعي. وفي السياق العربي والمصري على وجه الخصوص، يمكن تبني نموذج وطني لحوكمة الإعلام يقوم على إصدار تشريعات واضحة تضمن الإفصاح المالي والشفافية في التمويل، وتمنع التركز الاحتكاري للملكية الإعلامية. كما يمكن إنشاء مجلس وطني مستقل لحوكمة الإعلام يضم ممثلين عن الدولة والمجتمع المدني والنقابات المهنية، بحيث يكون مسؤولاً عن مراقبة الأداء الإعلامي وإصدار تقارير دورية للرأي العام، وفرض العقوبات المناسبة على الانتهاكات بما يعزز ثقة الجمهور.

  بالرغم من وجود العديد من المواثيق الإعلامية التي تطرح على الورق وترفع كشعارات لضبط الأداء وضمان المهنية، إلا أن غياب التطبيق الفعلي يجعلها في كثير من الأحيان بلا أثر ملموس، ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى صياغة ميثاق شرف إعلامي ملزم يترجم إلى قواعد عملية قابلة للتنفيذ، بحيث يشمل بنوداً واضحة لمكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف وحماية الخصوصية، مع إدماج أدوات تكنولوجية متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد المحتوى المضلل أو الخطير على منصات الإعلام الرقمي، ويوازي ذلك وضع برامج تدريبية متخصصة للإعلاميين والصحفيين ترفع وعيهم بالقوانين الدولية والتجارب الناجحة في مجال الحوكمة، فضلاً عن تفعيل قنوات مباشرة لتلقي شكاوى الجمهور وإدماجها في تقارير الرصد والمتابعة، إن المشكلة الحقيقية لا تكمن في نقص المواثيق أو ضعف النصوص، بل في فجوة التنفيذ وغياب الإرادة المؤسسية لتحويل تلك المواثيق إلى واقع عملي ينعكس على الأداء الإعلامي ويعزز الثقة المجتمعية.

  إن التصور المستقبلي لحوكمة الإعلام لا ينبغي أن يفهم باعتباره مقيداً للحريات، بل باعتباره مشروعا حضاريا يستهدف بناء إعلام مسؤول قادر على خدمة المجتمع وتعزيز ثقة المواطن في مؤسساته، وإذا تم تطبيق هذه المنظومة استلهاماً من النماذج الدولية الناجحة مع مراعاة الخصوصية المحلية، يمكن عندها للإعلام أن يتحول من ساحة للفوضى وتضارب المصالح إلى رافعة للتنمية وأداة للحوار المجتمعي المسؤول، بما يرسخ الاستقرار ويعزز مكانة الدولة في المشهد الدولي.

تم نسخ الرابط