و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

فنيًّا؛ أحب النجم محمد سلَّام طبعًا. وإنسانيًّا؛ شعرتُ - بالتأكيد- مثل غيري بلحظة خاصة، حلوة، مع انطلاق صوت تصفيق الجماهير الطويل في احتفال «مصر وطن السلام» الأخير الذي حضره الرئيس عبدالفتاح السيسي، بمجرد ظهور «سلَّام» على خشبة المسرح، وقد باحت عيناه حينئذ، وهو يتلقى تحية الحاضرين، بالكثير مما لم يُقَل.
علمتنا القواعد الصحفية الرصينة، قبل زمن صحافة الموبايل واللقطة والتريند، أن نفترض - قبل الكتابة- وجود قارئ واحد لم يعرف القصة من بدايتها برغم ذيوعها، وبالتالي فهو يستحق تعريفه بها.
في أكتوبر 2023، ظهر الممثل المصري محمد سلَّام متحدثًا في مقطع فيديو، أعلن فيه اعتذاراه عن عدم السفر إلى السعودية للمشاركة في عرض مسرحية «زواج اصطناعي» التي يلعب فيها دور البطولة ضمن موسم الرياض، لعدم قدرته على تقديم دور كوميدي في الوقت الذي يُقتل فيه أطفال غزة بعد عملية السابع من أكتوبر التي كانت انطلقت قبل أقل من ثلاثة أسابيع وقتها.
جاء الفيديو بمنزلة «قنبلة»، فجَّرت ردود أفعال عدة أشادت بموقف «سلَّام» بشدة ثم تحولت إلى الهجوم على بقية الفنانين المشاركين في المسرحية بضراوة، لا سيما بعد إلقاء الفنان بيومي فؤاد كلمة في ختام العرض دافع فيها عن موقفهم قائلًا إنهم جاؤوا ليقدموا فنًّا. وكان من هؤلاء الفنانين مي عز الدين ومحمد أنور وآخرون.
منذ ذلك الحين لم يظهر محمد سلَّام في أي عمل فني، بإنتاج مصري أو سعودي. وجاء وجوده على خشبة المسرح في الاحتفالية الأخيرة يوم السبت الماضي ليكون أول ظهور علني له، مع الإعلان أيضًا عن مسلسل جديد من بطولته، بعنوان «كارثة طبيعية»، على منصة «واتش إت» المصرية، ليكون هذا عودة فنية لمحمد سلَّام أخيرًا.
جاءت الفرحة الطاغية بعودة «سلَّام» كبحر هائل ممتد، مرتفع الموج، وقد شاركتُ - نفسيَّا- بالسباحة فيه، لكنه أغرق كالعادة - مجتمعيًّا وسياسيًّا وفنيًّا- عددًا من الأسئلة المهمة، واجبة الطرح. عنوان الأسئلة هو: «لماذا غاب محمد سلَّام؟ ولماذا عاد الآن؟».
لماذا غاب؟!.. معلوماتي، ليس كتحليل أو استنتاج مهما بدا منطقيًّا، تقول إن السعوديين قد غضبوا للغاية من موقف محمد سلَّام، واعتبروه هجومًا على المملكة ومعاداة لها، حتى أنهم «فكروا في التدخل» لطلب إجراء تعديلات في مسلسل «الكبير قوي» الذي كان يتم تصويره وقتها، كي لا يجمع أي مشهد فيه الفنانيْن محمد سلَّام وبيومي فؤاد، فيبدو الأمر كأنه مؤامرة مُرتبة ضدهم؛ فها هما الفنانان على اختلاف موقفيهما في الأزمة يمثلان معًا، ويُضحكان المشاهدين معًا، كأنه لم يحدث شيء. هكذا نظر السعوديون للمسألة، لكنهم في النهاية لم يقوموا بذلك؛ لم يتدخلوا.
محصلة ما قاموا به بالفعل هو أن «سلَّام» لم يظهر في أي مسلسل من إنتاج شركاتهم، أو في المسلسلات التي تُعرض على منصة شاهد المملوكة لهم.. وغاب «سلَّام» لعامين.
طغى بحر الفرحة بعودته أيضًا، فأغرق سؤالًا كان ينبغي أن يُطرح منذ مدة، لولا علو أمواج بحر آخر، هو بحر التمجيد والبطولة لموقف «سلَّام»، لا سيما في ظل تواصل المجزرة البشرية في غزة على أيدي أعداء الإنسانية، الصهاينة، لعامين كاملين، لكن الآن؛ في ظل بدء مسار السلام، صار السؤال واجبًا، والمراجعة حتمية، حول موقف «سلَّام» نفسه.
مبدئيًّا؛ عندما رأيتُ محمد سلَّام في فيديو الاعتذار عن المسرحية؛ صدَّقتُه. نعم. والتصديق في العموم لا يعني اتفاقًا أو اختلافًا مع الموقف محل التحليل، إنما يعني الاطمئنان إلى أن موقفًا ما يكون صاحبه قد اتخذه، جاء نابعًا من داخله، متسقًا مع ذاته، وليس بهدف تحقيق مصلحة أو مكسب أو بطولة.
وزادني ما عرفتُه بعدها تصديقًا، إذ أشارت معلوماتي كصحفي أيضًا إلى أن «سلَّام» كان متأثرًا بالفعل بشدة بأحداث غزة، قبل فترة من خروجه بـ«فيديو الاعتذار القنبلة»، وكان يتابع ويشاهد باهتمام وانتظام في فترات الراحة خلال بروفات المسرحية، التي اعتذر لاحقًا عنها، مقاطع الفيديو الأليمة القادمة من أرض فلسطين، ويُعلق عليها للمحيطين به معبرًا عن ألمه بسبب ما يجري لأهلنا هناك.
لكن الأسئلة واجبة الطرح هنا هي: لماذا أعلن «سلَّام» اعتذاره عن المسرحية من خلال مقطع فيديو؟.. لماذا لم يعتذر للقائمين على العمل فحسب؟.. هو حر بالطبع مثلما أن الكل حر، لكن الإعلان هنا يعني الدعوة إلى فكرة عامة، وليس مجرد التعبير عن موقف شخصي. الفكرة هي عدم جواز أو ملائمة تقديم أعمال فنية كوميدية في أوقات الحروب، وهو ما ينطوي بشكل غير مباشر على إدانة لكل زملائه، الذين لم يدافع عنهم بكلمة، لا سيما بعد طوفان الهجوم عليهم. لم يخرج ليرد عنهم السوء، بأن يقول إن هذا هو موقفه، وهذه قدرته، وإن لكل إنسان الحق في اتخاذ قراره في المسألة، من وجهة نظره.. فالمسألة بالفعل تحتمل وجهات نظر عدة.
هناك وجهة نظر أخرى، مضادة لموقف «سلَّام»، تقول إن الفنون لم تتوقف أبدًا في ظل الحروب الكثيرة التي خاضتها منطقتنا، بل إن الرئيس جمال عبدالناصر نفسه عقد اجتماعًا سريًّا لمجلس وزرائه بعد 26 يومًا من هزيمة يونيو 1967 قال فيه نصًّا: «أنا شايف إن التليفزيون حزين، والإذاعة حزينة، مافيش داعي نعيَّط (نبكي)، مثلًا سنة 1942 هل الراديو في إنجلترا كان بيعيَّط حزنًا والا كان فيه مزيكا وسامبا؟».
أجاب وزير التخطيط آنذاك عبدالمنعم القيسوني، مما يذكره الكاتب محمد توفيق في كتاب «شيء من الحرب.. السلاح السري»، بأنه كان في انجلترا عام 42، وكان الراديو به أغان وموسيقى طوال الوقت، كما كانت دور السينما تعمل. وتدخَّل ثروت عكاشة وزير الثقافة قائلًا إنه درس في كلية أركان الحرب كتابًا اعتبر مؤلفه أن الحلفاء استطاعوا الانتصار في الحرب العالمية الثانية بالسيمفونية الخامسة لبيتهوفن.
ابتسم عبدالناصر، وأكد لوزرائه أن الحياة لا بد أن تسير بصورة طبيعية، وأن الحرب لا تعني البكاء على الماضي، إنما تحتم التفكير في المستقبل، والتفت إلى وزير الإرشاد القومي محمد فايق مطالبًا بأن يذيع التليفزيون «حاجات تضحَّك الناس».
يعلق محمد توفيق على ذلك في كتابه بقوله: في ست سنوات حدث كل شيء ونقيضه: النصر والهزيمة، الفرح والحزن، الرضا والغضب، الحب والكراهية، التواضع والغرور، الحقد والإيثار، الأعمال العظيمة والتافهة، وكان المصريون يستمعون إلى أغاني «الطشت قال لي»، و«السح الدح إمبو»، و«أَمّه نعيمة»، ومعها أغاني أم كلثوم، وعبد الحليم، وفايزة، وشادية، ونجاة، ووردة، ومحمد رشدي، والشيخ إمام، ويشاهدون مسرحيات «البغل في الإبريق»، و«مدرسة المشاغبين»، و«دائرة الطباشير القوقازية»، و«هاللو شلبي»، و«المسامير»، و«سيدتي الجميلة».

الفنون فى زمن الحرب

وهكذا؛ ولأن المسألة ككل؛ مسألة الفنون في زمن الحرب، فيها وجهات نظر، فقد يرى البعض في كل هذا محاولة لإلهاء الشعوب، بينما يرى البعض الآخر أن انهيار الحالة المعنوية لشعب ما في توقيت معين هو أمر شديد الخطورة، قد يؤثر بالسلب في الموقف في الحرب، لذا لا بد من بعض الترفيه والتسرية.
وجهات نظر.. وهذا التنوع فيها يقود إلى السباحة بهدوء في بحر الأفكار، دون غرق في بحار أخرى، خطيرة، وملوثة، من التقديس واللعن؛ بحار تُقسم البشر على ضفاف متباعدة، متنافرة، بين وطني وخائن، أبيض وأسود، ناصع وملوث، فاضل ومرذول.
ولا يزال السؤال؛ لماذا غاب «سلَّام»؟!.. إذا كان السعوديون قد اعتبروا موقفه عدائيًّا فغيَّبوه، فلماذا اختفى أيضًا من الأعمال المصرية؟!.. ولماذا عاد الآن؟!.. محاولة الإجابة تقودنا هنا إلى التحليل، إذ لا معلومات قاطعة.
المواقف السياسية تتغير، والعلاقات بين الدول تتبدل، من الود إلى الجفاء، ومن الدفء إلى البرود. هذا شأن السياسة دومًا، لا سيما بين الدول الكبرى المتجاورة. ينطبق هذا على العلاقة بين مصر والسعودية، دون أن ينفي محورية واستراتيجية العلاقة بشكل دائم. وهو أمر ليس وليد اليوم؛ فمراجعة تاريخ العلاقة بين البلدين تؤكد وجود مثل هذه الفترات دائمًا، دون أن يصل الأمر يومًا إلى ما هو أبعد من الجفاء والبرود.
التحليل في مسألة محمد سلَّام يقودنا إلى الذهاب إلى أن المصريين ربما أرادوا خلال الفترة السابقة عدم إثارة غضب السعوديين، المشتعل أصلًا بعد الفيديو، فلم يتم إسناد أدوار له في الأعمال المصرية، لا سيما أن منصة «شاهد» تعد مستوردًا رئيسيًّا يدفع الملايين لشراء هذه الأعمال لعرضها.
لكن على مدى العامين الماضيين جرت في النهر مياه كثيرة، تجمعت فشكَّلت موجة عالية، بلغت الذروة مع إعلان المستشار تركي آل الشيخ رئيس هيئة الترفيه السعودية عن إقامة موسم الرياض هذا العام بدون الفنانين المصريين، فضلًا عما يمكن تسميته «مناكفة دائمة»، في منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، مع مصر ومسؤوليها في مناسبات عدة، وترويجه عبر رجاله في الإعلام لغضبه من هجوم قطاع كبير من الشعب المصري عليه.
ولأن «تركي» مسؤول سعودي رسمي، وقربه معروف من دوائر السلطة الحاكمة في المملكة، لم يكن من الوارد اعتبار مواقفه هذه مجرد اجتهاد شخصي من جانبه، ومن هنا، وفقًا لهذا التحليل، جاءت عودة «سلَّام»، بقرار مصري واضح، في رأيي، «فالمناكفة» يمكن أن يقابلها «مناكفات»، والمواقف تستدعي أمثالها، والأدوات كثيرة، والإجراءات متنوعة، وقد أثبتت الأجهزة المصرية في الفترة الأخيرة حسن الإدارة لملفات عدة أكثر أهمية.
وهذه - أكرر مرة أخرة- طبائع السياسة بين الدول الكبرى، كما في ملاعب الكرة؛ الأكتاف القانونية واردة، والعرقلة تحدث أحيانًا منعًا لإحراز هدف، و«الإنذار» موجود، لكن تبقى بطاقات «الطرد» - في السياسة الحكيمة- غائبة.
يحق للمصريين إذًا أن يفرحوا - إنسانيًّا- بعودة «سلَّام»، الذي اتخذ موقفًا صادقًا مع نفسه، وإن اختلفنا معه، كما يحق لهم أن يفرحوا - سياسيًّا- بموقف بلادهم التي أرادت تذكير الجميع بالقدرة على الرد، في أي وقت.
لكن بحر الفرحة، للأسف، يُغرق لدينا دومًا الأسئلة الواجبة حول تقلبات السياسة التي تُخفي وتُظهر البشر، وفقًا لحساباتها هي، أو ربما أيضًا بسبب حسابات هؤلاء البشر أنفسهم، وعدم إدراكهم تبعات مواقفهم. تلك، للأسف، طبيعة الجماهير التي اعتادت إصدار الأحكام، وتقسيم الناس إلى ملائكة وشياطين، أطهار وفاسدين، أبطال وخونة. ليتنا نتوقف عن هذا، ونعلي من شأن السؤال، بحثًا عن إجابات عاقلة، وسعيًا إلى النجاة من الغرق في بحار الأوهام.

تم نسخ الرابط