و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

أنا من المتأثرين بكتابات الراحل الدكتور مصطفى محمود، ذلك المفكر الذي كان يبحث في جوهر الكون كما لو كان يبحث في أعماق نفسه، كنت دائما مأخوذا بذلك الصراع الأبدي بين الحياة والموت، بين النوم والاستيقاظ، بين الصباح والمساء، بين الإنسان والأنعام، بين النجوم التي تلمع في البعد والكواكب التي تدور في صمت، وبين السماء التي تفتح صدرها والأرض التي تحتضننا في النهاية.

كلها علامات استفهام معلّقة في فضاء الوعي الإنساني، تدور في حلق الإنسان منذ أن تتفتح عيناه على الوجود، تذكرت ذلك حينما ولدتُ بناتي التوأم، روحي وقلبي وعقلي، وفتحتا أعينهما على رؤيتي لهما، في تلك اللحظة تساءلت: من أكون بالنسبة لهما في أول يوم لهما على هذه الأرض؟، وكيف كنت أنا في يوم مثل هذا، طفلا لا يملك من أمره شيئا؟ كان ذلك المشهد تأملا خالصا في معنى الوجود، في دورة الحياة التي تبدأ بصرخة الميلاد وتنتهي بصمت الثرى، عندها أدركت أن فلسفة الكون ليست سوى استيقاظ مبكر قبل أن نواري التراب، محاولة لفهم سر اللغز قبل أن نصبح جزءا منه.

كل شيء في هذا الكون يسير بنظام عجيب، لا خلل فيه ولا صدفة ولا عبث، النجوم تسير في أفلاكها، والكواكب تدور بانتظام، والمطر ينزل بقدر، والليل ينسحب حين يحين دوره للنور، حتى الذرات الصغيرة في جسدك تسجد بطريقتها لخالقها، وتسبح بأمره دون أن تشعر، إن هذا الكون ليس فراغا صامتا، بل قصيدة منسقة الحروف، تتلى على من أراد أن يفهم معنى الوجود.

كل ما في الكون يدل على الله، قوانين الفيزياء، دوران الأرض، انتظام الشمس، نبض القلب، حركة الوردة وهي تتفتح في الصباح، كل ذلك يصرخ في وجه الغافلين: هناك خالق حكيم يدبر الأمر كله من فوق سبع سماوات، لا شيء هنا يسير عبثا، ولا شيء يولد بلا حكمة، حتى العواصف والزلازل والمحن، هي جزء من المعادلة الكبرى التي لا نراها كاملة، نحن نرى الجزء، والله وحده يرى الكل.

إن الكون كتاب مفتوح، لكننا للأسف لا نقرأه إلا بعيون مادية عمياء، ندرسه بالقوانين، ونغفل عن المعاني، نحسب أن العلم يغنينا عن الإيمان، مع أن كل اكتشاف علمي جديد هو باب إلى معرفة الله لا إلى إنكاره، فكل ذرة وكل مجرة تقول لمن يتأمل: "أنا دليل على الخالق، لا على الصدفة".

الإنسان نفسه جزء من هذه الفلسفة الكونية، هو مخلوق صغير في حجم الجسد، عظيم في حجم المعنى، داخله عالم كامل من الأسرار، من الفكر والمشاعر والروح، هو المخلوق الوحيد الذي يملك الوعي، القادر على أن يسأل: من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وبماذا أنتهي؟ هذا السؤال وحده هو ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات، ولكن المأساة تبدأ حين يعيش بلا سؤال، حين ينشغل بالمادة عن الروح، وبالظاهر عن الجوهر، وبالعيش عن الغاية.

فلسفة الكون تقول لك: كل شيء في حركة، فلا تكن ساكنا، كل نجم يدور في فلك، وكل كائن يسعى في رزقه، وكل قلب يخفق بمعنى، إن الجمود موت، والكسل جريمة ضد نفسك، لأن الكون لا يعرف الكسل، بل يعرف السعي والجد والخلق والتجدد، الله تعالى لم يخلق شيئا عبثًا، فكيف ترضى أن تكون أنت العبث في هذا النظام الكامل؟، اقرأ في نفسك كما تقرأ في السماء، لأن الإنسان والكون وجهان لكتاب واحد اسمه "الخلق"، من عرف نفسه، عرف ربه، ومن تفكر في الكون، اهتدى إلى الإيمان، ليس الإيمان أن تغلق عينيك، بل أن تفتحهما جيدا لترى، أن تنظر في التفاصيل الصغيرة، في ورقة شجر، في قطرة ماء، في وجه طفل، وتقول بقلبك قبل لسانك : سبحانك ما أعظمك.

فلسفة الكون

لكن الغفلة جعلتنا نحيا وكأننا غرباء عن هذا الكون، نسير فوق الأرض ولا نلتفت إلى عظمة من صنعها، نرى الجمال كل يوم ولا نحمد، نرزق في كل لحظة ولا نشكر، نمنح الوقت والعقل والقدرة ثم نضيعها في اللهو والكسل، نسينا أن الله جعل هذا الكون لأجلنا، وجعلنا نحن لأجله، ليعبد ويعرف ويذكر، إن فلسفة الكون ليست لغزا يحتاج إلى عالم فيزياء، بل قلبا حيا يشعر، أن تفهم فلسفة الكون يعني أن تعي وجودك، أن تدرك أنك لست كائنا عابرا، بل مخلوق له رسالة، أن تسير على الأرض بخطى المتأمل، لا بخطى الغافل، أن تعرف أن كل لحظة تمر هي جزء من امتحانك الكبير في هذه الحياة.

إنه كون لا يمل من التسبيح، فهل تمل أنت من السعي؟ إنه كون منظم بدقة، فهل تنظم أنت حياتك كما نظّم الله هذا الوجود؟ إنه كون يسير نحو غايته منذ الأزل، فهل تعرف أنت غايتك؟، فلسفة الكون ليست إلا دعوة مفتوحة إلى التأمل، إلى الإيمان، إلى العمل، إلى العودة إلى الله بعقل واعٍ وقلب متصل، إن الله لا يريد منك أن تفهم كل أسرار الكون، بل أن تفهم مكانك فيه، أن تعرف أنك لست مركز الوجود، ولكنك جزء من منظومته، وأن كمالك الحقيقي هو في اتصالك بخالقك، لا بانفصالك عنه.

حين أتأمل فلسفة الكون بأكملها، أجدها تختصر في حديث جبريل حين نزل على النبي محمد ﷺ في غار حراء، وقال له: اقرأ، فقال : ما أنا بقارئ ، فقال له:  اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم في تلك اللحظة بدأت رحلة الوعي الإنساني من جديد، فكانت الكلمة الأولى من الوحي دعوة للقراءة، وكانت الأداة القلم، وكأن الله أراد أن يقول لنا إن سر الكون كله يبدأ من المعرفة، من التأمل، من السعي إلى الفهم لا من الغفلة والركود، تلك الآيات لم تكن مجرد تكليف بالقراءة، بل كانت إيقاظا للعقل من سباته الطويل، إعلانا بأن أول عبادة في الوجود هي عبادة الفكر، وأن القلم هو الامتداد الطبيعي للعقل حين يريد أن يخلّد أثره في العالم. إن فلسفة الكون كلها تتلخص في تلك اللحظة: أن تفهم، أن تتعلم، أن تقرأ، أن تكتب، وأن تدرك أنك حين تمسك بالقلم فأنت تشارك في فعل الخلق نفسه، لأن الله علم بالقلم.
إنك حين تفهم الكون، تفهم نفسك، وحين تفهم نفسك، تدرك أن الهدف الأعظم هو الله، وأن الطريق إليه يبدأ من نظرة صادقة إلى السماء، ومن فكرة خاشعة في عمق القلب تقول:  ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار.

تم نسخ الرابط