
للكاتب الكبير الراحل محسن محمد عبارة لا أنساها، جاءت عنوان فصل في كتابه "الصحافة قصص ومغامرات!". العبارة هي: "رأيت صحيفة تموت". وتحتها روى قصة تجربة عاشها في الولايات المتحدة الأمريكية عندما وجد صحيفة اسمها "واشنطن ستار" تخرج يوم 8 أغسطس عام 1981 بعنوان رئيسي "مانشيت" هو: "العدد الأخير"، معلنة وداع قرائها، واعتذارها لهم، لاضطرارها إلى التوقف بسبب مشاكل مادية.
تبدو الحكاية تجربة صحفية وإنسانية نادرة، ومؤثرة، وقد استدعت إلى ذهني الآن السؤال، وهو "إذا كانت الصحف تموت أحيانًا فمتى يموت الصحفيون؟!".
لا تُصدم أو تستغرب، فللسؤال أساسٌ وسبب، وإن بدا ساخرًا، إذ أن الصحفيين يبدون في نظر أطراف عديدة أشبه بكائنات كريهة ينبغي لها أن تنقرض، حتى يستريح الكل.
ليس في مصر وحدها، إنما في أعتى القوى، لا يكون الصحفيون شخصيات مريحة للمسؤولين. انظر إلى ترامب ولهجته الحادة في المؤتمرات الصحفية مع ممثلي الصحف والقنوات التي لا تروق له. وإسرائيل التي تبيد البشر والحجر دون رادعٍ من أحد، تمنع الصحفيين من دخول مناطق جرائمها، وتقتل الموجودين منهم فيها.
العلاقة بين الصحفيين والمسؤولين علاقة أضداد دائمًا، في كل أرض؛ فالفكر والمنهج والأهداف والرؤية؛ كلها متباينة. الصحفي يسعى إلى الكشف، والمسؤول هدفه الإخفاء. والكشف ليس بالضرورة فضحًا أو تعرية إنما هو في نظر الصحفي حق القارئ في المعرفة، كما أن الإخفاء لا يعني دومًا التستر على أخطاء أو فساد، إنما يخشى المسؤول أن يسيء الصحفي التصرف في المعلومة، فيستسهل أن يخفيها.
تعزيز التغطية
في بدايات الألفية، عملتُ في التغطية الصحفية لأخبار جهة قضائية مهمة. ولأنني لا أحب الاكتفاء بالبيانات الرسمية رحتُ أشرح لأحد المسؤولين فيها أهمية إمدادي بتفاصيل إضافية، ما يعزز التغطية وينقل الدور المبذول من جانب الجهة بشكل أفضل.
ظللت أتكلم لفترة، والمسؤول ينصتُ بذوق وابتسامة، يومئ برأسه أحيانًا بما يعني الموافقة، لكن بعدها؛ وجدته يقول حاسمًا: "يا رجل.. الصحافة أسقطت كلينتون". فغرتُ فاهي ذاهلًا. ضاعت محاولة الإقناع هباءً. وددتُ أن أرد في الحال قائلًا: "بل مونيكا ومَن وراءها وليس الصحافة"، لكن لم أفعل. لا فائدة.
تعكف الآن لجان وهيئات وأجهزة على وضع خارطة لإصلاح الإعلام. لا أحد يعرف ماذا ستكون معالم الخارطة؛ أسماء إعلاميين جدد أم آخرين مبعوثين من الموات، استحداث برامج أم تنقلات بين قنوات، لا أحد يعرف، مع أن الأمر بسيط.
أبرز معالم الخريطة ينبغي أن يكون السهول المنبسطة، التي يمرح فيها الكل بمسؤولية وفق قواعد منضبطة، ولا بد من إزالة الجبال الشاهقة الوعرة، تلك التي تحجب شمس الحقيقة. أولى معالم الخريطة هي الحرية، فهل هي متاحة؟
يموت الصحفيون - في أي أرض- بالاختناق، عندما تضيق مساحة الحريات، وبفعل السعي الحثيث وراء لقمة العيش، فهل توفر الزيادة الجديدة في دخول الصحفيين بمصر حياة كريمة لهم؟ الزيادة قدرها ستمئة جنيه، بما يوازي 12 دولارًا. شكرًا للإصلاح. يموت الصحفيون أيضًا - في بعض الأحيان- ضحكًا وسخرية.
وكي لا نظلم أحدًا، فالكائن الصحفي ليس كريهًا في نظر الأجهزة الرسمية - في كل بلاد الدنيا- فقط، إنما الشعوب كذلك لا سيما في زمن السوشيال ميديا.
كثيرًا ما يجلس الصحفي في مجلس خاص، فيسأله الحاضرون من الناس عن رؤيته بشأن حدث معين أو ملف، تطور أو موقف، دولة أو حرب، أو أو... وما إن يبدأ الإجابة حتى يقاطعه المستمع بعد أول جملة - ربما جملتين للموضوعية!- ثم ينبري السائل عندئذ في قول رأيه؛ رأيه هو، فهو لا ينتظر رأيك، لا يريد أن يسمعك. افهم أيها الكائن الكريه. هو لا يبغي المعرفة، إنما يريد أن يتكلم، فهو لا يجد من يسمعه أيضًا.
يموت الصحفيون كمدًا، يموتون غربةً، لكنهم - للمفارقة- بعد موتهم لا يرحلون، إنما تبقى كلماتهم، ومواقفهم، يعود الناس إليها وإليهم، ليدرك الجميع عندئذ الحقيقة.. فالصحفيون - الجادُّون منهم فقط- لا يموتون.