و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

يحمل مبنى التليفزيون المصري على كاهله وبين جنباته تاريخًا طويلًا، كأنه يقف شاهدًا على العصور والتحولات التي مرت بها مصر سياسيًا وفنيًا وثقافيًا، منذ انطلاقته الأولى عام 1960. ومهما تتبدل به الأحوال فإنه يظل يمثل معنًى خاصًا يعكس شجنًا في قلوب كثير من المصريين قبل عصر القنوات الفضائية.
قرأتُ كتاب "شيخ حارة ماسبيرو" الصادر حديثا للكاتب زياد فايد، وفيه وجدتُ متعة الغوص في تاريخ وأسرار وكواليس مبنى التليفزيون "ماسبيرو"، الذي قضى الكاتب داخله 45 عامًا معدًا لأهم وأشهر البرامج، وصحفيًا في مجلة "الإذاعة والتليفزيون".
يقدم الكتاب حكاية ذلك "الصندوق السحري" الذي بدأ إرساله في تمام الساعة السابعة من مساء يوم 21 يوليو 1960 خلال العيد الثامن لثورة 23 يوليو، لمدة خمس ساعات يوميًا.
شملت خريطة اليوم الأول للإرسال موادًا تمثلت في شارة الافتتاح والسلام الجمهوري، مع عرض علم الجمهورية العربية المتحدة، وتلاوة آيات من القرآن الكريم للشيخ محمد صديق المنشاوي، ثم الانتقال إِلى إذاعة خارجية لعرض خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في افتتاح جلسة مجلس الأمة (البرلمان)، ثم عرض تسجيل لقاء مع الفنانة فاتن حمامة وذكرياتها مع ثورة يوليو، وتسجيل لقاء مع الفنان عبد الحليم حافظ عن السد العالي وعرض أغنية "حكاية شعب".
وبعدها تم عرض كلمة وزير الإعلام (محمد عبد القادر حاتم) سرد فيها قصة الحلم الذي أصبح حقيقة وهو التليفزيون، ثم نشيد "الوطن الأكبر" لمجموعة من الفنانين بقيادة الموسيقار محمد عبد الوهاب، ونشرة الأخبار تقديم صلاح زكي، ثم منوعات غنائية ومونولوجات، ليتم اختتام الإرسال الساعة 12 مساءً.

يروي زياد فايد عددًا من الوقائع التي كان طرفًا فيها خلال رحلة عمله الطويلة، ألتقط منها واقعة لفتت نظري، خلال عصر الرئيس الراحل حسني مبارك، عندما تم الإعلان بشكل مفاجئ عن ندوة بعنوان "مصر والمستقبل الاقتصادي" ضمن أنشطة معرض القاهرة الدولي للكتاب في إحدى دوراته، برغم عدم إدراجها ضمن الفاعليات، وكان من المقرر أن يحضرها جمال مبارك نجل الرئيس ليتحاور فيها مع عدد من الشباب.
اتصل الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب آنذاك بفايد وأبلغه بضرورة وجود كاميرات التليفزيون داخل القاعة المخصصة للندوة الساعة السابعة صباحًا وتجهيزها خلال ساعة على الأكثر، ثم الانتظار خارج القاعة التي سيتسلمها الحرس الجمهوري استعدادًا لحضور جمال مبارك الساعة 12 ظهرًا.
تم ضبط الكاميرات، ثم فوجئ الكاتب بعدها في العاشرة صباحًا برئيس هيئة الكتاب يتحرك بتوتر وقلق أمام القاعة في خطوات سريعة ممسكًا بهاتفه المحمول، مرددًا كلمات "تمام، حاضر، حالًا"، وبمجرد أن لمحه بعد إنهائه المكالمة طلب منه إخلاء القاعة من الكاميرات فورًا.

ما لجمال وما للاقتصاد المصري 


أسرَّ سمير سرحان لفايد بعدها في ظل ما يربطهما من علاقة صداقة بأن محدثه كان زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية الذي نقل له غضب الرئيس مبارك بشدة، وتساؤله عن علاقة جمال بالموضوع المعلن للندوة: "ما لجمال وما للاقتصاد المصري؟!".
وتداركًا للموقف وحسمًا لما قد يتردد من تساؤلات تم وضع لافتة أخرى، أُعلِنَ فيها عن حوار مفتوح بين جمال مبارك والشباب، ثم جاءت حافلتان تقلان شبابًا يرتدون زيًّا موحدًا، رجح الكاتب أنهم يتبعون "جمعية جيل المستقبل" التي كان يرأسها جمال، ودخلوا القاعة التي أُغلق بابها وتم منع أَي شخص من دخولها.
في اليوم التالي، نشرت الصفحات الأولى من الصحف صورة للشباب، بجانب صورة أخرى منفصلة لجمال مبارك وأمامه ميكروفون كأنه يتحدث إليهم، في حين أنه لم يحضر إلى معرض الكتاب نهائياً في ذلك اليوم، حسب ما ذكره "شيخ حارة ماسبيرو".
يتعرض الكتاب أيضا لواقعة أخرى، خلال تصوير حلقة من برنامج داخل أحد الأندية الرياضية، وعندئذ لاحظ رئيس مجلس إدارة النادي نشاط زياد فايد وقيامه بتوجيه المخرج ومراجعة الأسئلة مع المذيعة، فسألها عنه، لتخبره بأنه من قدامى المعدين في التليفزيون، وعلاقاته ممتدة مع كبار الإعلاميين ووزير الإعلام شخصيًا (صفوت الشريف)، كما يُطلق عليه داخل مبنى ماسبيرو لقب "شيخ حارة ماسبيرو" أو "الصندوق الأسود".

فوجئ فايد برئيس النادي الذي كان عضوًا في البرلمان يطلب منه معرفة بعض الأسرار التي تدين وزير الإعلام، مقابل منحه عضوية النادي مدى الحياة دون مقابل، مع وعد بانضمامه إلى مجلس الإدارة في أقرب وقت، وتعيينه متحدثًا إعلاميا باسم النادي.
عندئذ؛ رد عليه بأنه قضى داخل مبنى ماسبيرو أكثر مما قضى من وقت في منزله، ومهما قابل من مشاكل وعقبات وعدم تقدير فإن كل ما يعرفه سيبقى سرًا في ذاكرته مهما طال العمر.
أصدر زياد فايد خمسة كتب في مجال الإعلام، هي "وزراء إعلام مصر.. خبايا وكواليس"، و"45 عامًا في كواليس ماسبيرو"، و"ماسبيرو.. تاريخ من الإبداع"، و"الفضائيات والإشكالية بين الإعلام والهيمنة"، و"الفضائيات بين الإعلام والسياسة".
أخيرا.. خطر لي أن أعرف كيف يرى شيخ حارة ماسبيرو حال التليفزيون المصري اليوم، لا سيما من زاويته؛ إعداد البرامج، فسألته وأجاب.
قال لي إن الإعداد سيظل مشكلة تواجه التليفزيون، لاعتماد كثير من البرامج حاليًا على فئة من الموظفين، كموظفي السكرتارية أو العاملين في مكتبة الأفلام أو حديثي التخرج، ممن يعتبرون الإعداد وسيلة للتربح: "سبوبة"، حتى صار الإعداد مهنة مَن لا مهنة له، وإن كانت تتيح لصاحبها أن يتقدم لامتحان المذيعين أو يتدرج في السلم الوظيفي حتى يمكن أن يصل إلى منصب رئيس التليفزيون!.
وبالأرقام، وجَّه نظري إلى مفارقة كاشفة، وهي أن ديون اتحاد الإذاعة والتليفزيون وقت مغادرة صفوت الشريف منصبه كوزير للإعلام كانت تبلغ 11 مليار جنيه، بينما تجاوزت الآن 25 مليارًا، في حين أن الشاشة أصبحت فارغة من أي مضمون أو محتوى، وانتهى الأمر بأن أصبح التليفزيون المصري بلا برامج أو مشاهدين.. قالها الأستاذ زياد فايد ثم سكت.. فلم أجد عندي ما يقال.. انتهى المقال!.

تم نسخ الرابط