و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

 ما يجري على الساحة الإعلامية اليوم لم يعد يحتمل التبرير أو الصمت، ولم يعد مجرد خلل عابر في الاختيار أو قصور في الإعداد، بل تحول إلى أزمة حقيقية تمس أمن الدولة الفكري، واستقرارها الاجتماعي، وتماسكها الثقافي، نحن أمام مشهد عبثي يتصدره مدعون وأنصاف متعلمين، دخلوا إلى الشاشات من أبواب خلفية، وراحوا يلقون محاضرات على الهواء مباشرة ويحللون سياسات ويزاحمون أهل العلم والخبرة دون رصيد حقيقي من الدراسة أو المعرفة أو المصداقية.

أصبح الإعلام بلا بوابة عبور حقيقية، لم تعد المؤهلات شرطا، ولا القواعد المهنية عائقا، ولا التاريخ العلمي معيارا، كل من يملك القدرة على الادعاء، وموهبة الظهور، يجد من يحتفي به ويمنحه الميكروفون، هكذا دخل الدجل إلى البيوت، وتسربت الأكاذيب إلى وعي المواطنين، وتحوّلت المنصات الإعلامية إلى ساحات ترويج للجهل والسطحية.

في واحدة من أكثر المشاهد عبثا وإهانة للعقل المصري، يظهر شخص حاصل على دبلوم فني تجاري متقدم على جميع القنوات الفضائية المصرية، يقدَم لجمهور الملايين على أنه "أستاذ علاقات دولية"! وكأن الشاشات قد فقدت بوصلتها تماما، وأصبح كل من يمتلك قدرة على التحدث أمام الكاميرا مؤهَّلًا لأن يفتي في أدق قضايا السياسة الدولية، هذا الشخص لا يحمل أي شهادة جامعية معتمدة، ولا صلة له بالمجتمع الأكاديمي أو البحثي، ورغم ذلك يتنقل بحرية بين البرامج الحوارية والنشرات والتحليلات السياسية، يوزع الآراء ويتحدث عن السياسة الخارجية وكأنه أحد كبار المفكرين، إنها كارثة إعلامية مكتملة الأركان، تفضح حجم الانهيار المهني.

في ظل هذه الفوضى، يصبح التطهير الإعلامي ضرورة وطنية، ومسؤولية لا تقل عن مسؤوليات الأمن القومي، لأن الإعلام هو الحصن الأول للعقل الجمعي، وهو خط الدفاع الرئيسي ضد الإشاعات والتضليل والانحرافات الفكرية، تركه مستباحا لمن هب ودب، هو تفريط في وعي الأمة، وتفجير ناعم من الداخل لا يقل خطرا عن أي تهديد خارجي.

 

لم يعد مقبولا أن يظهر على الشاشات من لا يحمل أي مؤهل علمي، ويتحدث في قضايا أمنية واستراتيجية بلسان الخبير، لم يعد من المقبول أن تتحول القنوات إلى منابر للادعاء والسطحية، تحت شعار "جمهور المشاهدة"، المسؤولية لا تقع فقط على الضيوف المدعين.
وإذا كانت القنوات الفضائية تعاني من هذا الانفلات، فإن الكارثة الأكبر تتجلى في منصات اليوتيوب وتيك توك، التي تحولت إلى ساحات مفتوحة للعري والفضائح والابتذال، بلا رقيب ولا حسيب، صُناع محتوى بلا قيمة، وشخصيات تافهة تحصد ملايين المشاهدات بنشر التفاهة والانحلال، يقودون عقول المراهقين والشباب إلى التشتت والانهيار الأخلاقي، أين الرقابة؟ أين المسؤولية المجتمعية؟ أين مؤسسات الدولة من هذا الغزو الناعم الذي يهدد بيوت المصريين وأخلاقهم ومستقبلهم؟.

مظاهر الفوضى الإعلامية

ومن مظاهر الفوضى الإعلامية التي تنذر بكارثة حقيقية، انتشار ظاهرة المذيعين الذين يستأجرون وقت البث الفضائي بمقابل مادي، دون أي رقابة تحريرية أو إشراف مهني، هؤلاء لا ينتمون إلى مؤسسات إعلامية حقيقية، ولا يخضعون لأي ضوابط مهنية، بل يدفعون الأموال للقنوات مقابل ساعات هواء يملؤونها بأي محتوى، ولو كان سطحيا، مضللا، أو حتى مخالفا للقيم والمعايير الأخلاقية، هكذا تحولت بعض القنوات إلى سوق مفتوح للإيجار، وأصبحت الشاشة تباع لمن يملك المال لا لمن يملك الفكر أو المهنية، مما أدى إلى انتشار برامج هابطة، وضيوف مشبوهين، ومحتوى يعبث بعقول الناس ويشوّه صورة الإعلام بأكمله. إنها فوضى حقيقية تتطلب تدخلًا عاجلًا وحازمًا قبل أن تنهار ما تبقى من قيمة الرسالة الإعلامية.

ما نحتاجه اليوم ليس مجرد نقد موسمي أو تحذير عابر، بل حملة تطهير شاملة وصارمة، تعيد ضبط إيقاع الإعلام، وتنظف الشاشات والمنصات من كل متطفل ومدع ومروج للجهل والانحطاط، فالإعلام النظيف ليس رفاهية، بل أمن قومي حقيقي، وركيزة من ركائز بقاء الدولة في وجه هذا الطوفان من التزييف والانهيار الأخلاقي لذا، فإنني أناشد أجهزة الدولة المصرية بكل مؤسساتها الرقابية والتشريعية والإعلامية أن تتحرك بشكل عاجل وفوري لوضع حد لهذه الفوضى المهينة، وأن تبادر إلى إصدار تشريعات صارمة تنظم الظهور الإعلامي، وتضع معايير واضحة لاختيار الضيوف والمحللين والخبراء، وأن تلزم كافة المنصات التقليدية والرقمية بمراجعة مؤهلات كل من يظهر أمام الجمهور، الأمر لم يعد يحتمل الانتظار أو التهاون، فالتزييف الذي يبث يوميًا على الشاشات يشكل خطرا مباشرا على الوعي العام، وعلى الأمن الثقافي والفكري للدولة، وهو ما يستوجب ردعا قويا، ومحاسبة صارمة، وتنفيذا فوريا لكل من يستهين بعقل الشعب، ويعبث بأمان المجتمع تحت ستار حرية الإعلام أو "الترند".

تم نسخ الرابط