و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

 في لحظات المذبحة، حين يتكاثر الدم وتتصاعد صرخات الأطفال تحت الركام، يطل السؤال الموجع : أين الله من المجازر؟ سؤال يتخذه بعض العلمانيين سلاحًا ليشكّكوا في الإيمان، وليقولوا إن الدين خذل الإنسان، وإن السماء قد أغلقت أبوابها أمام المستضعفين لكنهم يغفلون أن الإيمان لم يكن يوما وعدا بزمن بلا ألم، بل كان دائما هو السر الذي يجعل الإنسان قادرا على الوقوف في وجه الألم، ثابتا، أبيًا، لا ينكسر.

تأملوا غزة اليوم: مدينة جريحة، لكنها تقف بجبين مرفوع، أم تودع أبناءها واحدًا تلو الآخر، وطفل يودّع طفولته بين الدخان والدماء، ورغم ذلك، فإن في عيونهم نورا يفضح ظلام الطغاة، هؤلاء لم يبيعوا الحق، ولم يتنازلوا عن الكرامة، بل صاغوا بدمائهم ملحمة جديدة تقول للعالم:  قد تهدمون البيوت، لكنكم لا تهدمون الإيمان.

وهنا، يعود التاريخ من بعيد، ليضع بين أيدينا قصة خالدة: قصة ماشطة بنت فرعون. امرأة لم تكن ملكةً ولا صاحبة جاه، بل خادمة بسيطة في بيت الجبّار. لكنّها امتلكت ما لم يمتلكه فرعون بكل سلطانه: قلبًا عامرًا بالإيمان. وعندما علم الطاغية بحقيقة يقينها، أراد أن يطفئ نورها ببطشه، فأمر بقتل أبنائها أمام عينيها، واحدًا تلو الآخر، في الزيت المغلي.

أي قلب ذاك الذي يحتمل أن يرى فلذة كبده يتفتّت أمامه؟ أي أمّ يمكن أن تبقى ثابتة في لحظةٍ كهذه؟ إنها لحظة يفنى فيها الصبر، وتتكسر عندها الجبال، ومع ذلك، ظلّت ماشطة فرعون واقفة على الحق، لم تزلزلها الفواجع، ولم تفتّ في عضدها النيران. حتى جاء دور طفلها الرضيع، ذلك الذي كان أملها الأخير، وضعفها الأخير. لحظةً كادت أن تترنح فيها الإرادة البشرية، فإذا بالمعجزة تقع: ينطق الرضيع بلسان اليقين، قائلاً: "يا أمّاه، اثبتي.. فإنك على الحق".

يا لعظمة تلك اللحظة! 

رضيع يصدح بكلمة أبدية أقوى من سيوف الطغاة، وأمّ تتجلّى في ثباتها صورة من صور الخلود. لذلك، خلّدها الله بذكرها في حديث نبيّه ﷺ، وأكرمها بأن يشمّ رائحتها الطيبة في الجنة ليلة الإسراء والمعراج واليوم، تتردد القصة نفسها في غزة. كل طفل يُستشهد، كأنه الرضيع الذي ينطق من جديد: يا أمّاه، اثبتي على الحق. كل أمّ تودّع أبناءها كأنها ماشطة فرعون، تُختبر في دمها وصبرها، لكنها تصمد لأنها تعلم أن الحق لا يُباع، وأن الدم الذي يُسفك على طريق الكرامة هو وقودٌ للنصر.

أما العلمانية التي تحارب الدين وتتنطح بالسؤال: أين الله؟ فهي لا تفهم معنى الإيمان، تراها تسقط المعركة على حسابات الأرض فقط، حيث الأقوى ينتصر والأضعف يفنى، لكنها لا ترى أن للإيمان معادلة أخرى: أن المستضعف بالإيمان أقوى من الجبار بجبروته، وأن كلمة رضيع صادق أثبت في التاريخ من ألف دبابة إن غزة اليوم تكتب رسالة للبشرية كلها: أنّ الحق ليس في موازين السلاح، بل في موازين الصبر والثبات، وأن الطغيان، مهما علا، يُهزم حين يقف أمام قلوب مؤمنة. ومن ماشطة فرعون إلى غزة، خطّ واحد لا ينكسر: إيمان يتحدى الطغيان، ودموع تزرع النصر، وحق لا يزول مهما غمره الدم والركام.

فيا أم غزة، يا من فقدت أبناءك واحدًا تلو الآخر، لا تنظري إلى الدم المسفوح حولك، بل ارفعي بصركِ إلى السماء، فهناك يضيء عرش الرحمن بأسمائهم، وهناك تفتح لهم أبواب الجنة بضحكات لم تدنسها المدافع اسمعي صوت رضيعكِ، وهو يناديكِ كما نادى رضيع ماشطة فرعون: "يا أماه، اثبتي.. فإنك على الحق، وإن كان قلبكِ يتفتت اليوم، فاعلمي أن كل دمعةٍ منكِ ستروى بها شجرة في الجنة، وكل شهيد من أطفالكِ سيستقبلكِ غدا بثوب أبيض يلفكِ بالخلود،  إنهم لم يموتوا يا أماه.. بل ارتحلوا إلى الله، وتركوا لنا وصية واحدة : اثبتوا على الحق، فإن الحقّ لا يموت.

تم نسخ الرابط