
كان الإعصار الذي ضرب العالم العربي في مستهل العقد الثاني من الألفية الثالثة، عاتيا، لا يذر من الأنظمة شيئا إلا جعله كالرميم، انطلقت شرارته من تونس، لكنها ما لبثت أن وجدت في الجوار العربي أنظمة متآكلة، فهشمت ما استطاعت إليه سبيلاً، مصر، بحجمها ومكانتها، كانت الجائزة الكبرى؛ دولة بثقل التاريخ، وقلب الجغرافيا، وروح الأمة، وكان استهدافها مشروعاً قديماً متجدداً، تآمر فيه الخصم والجار والصديق المزيف، وتداخلت فيه خيوط الأجهزة ومراكز الفكر وصناع الخرائط الجديدة للشرق الأوسط، كما تصورتها كونداليزا رايس ذات يوم، في لحظة شيطانية سمتها "الفوضى الخلاقة".
منذ اللحظات الأولى للحرب الأمريكية على الإرهاب، راحت واشنطن تمارس ازدواجية الوقاحة السياسية؛ تبتز القاهرة تحت شعار الإصلاح والديمقراطية، بينما تضغط في الخفاء لإقحام مصر في حروبها، وتستدرجها للمستنقع العراقي، وللمستنقع الأفغاني من بعده، وما رفضه النظام حينها، كان سبباً في تضييق الخناق وتفعيل أدوات العبث، بدأت الأصابع تعبث من تحت الطاولة، وتحرك وكلاءها من ساحة الإعلام، إلى منابر التمويل، إلى ساحات التظاهر، وسقطت معادلة "الاستقرار مقابل الجمود" التي أرساها نظام مبارك، تحت ضربات الزمن وصراعات الأجنحة.
وفى غفلة من الزمان، وتحت أنين الدولة التى أنهكها الصراع، تمددت جماعة الإخوان في الفراغ السياسي، وتقدمت من أبواب الحركات المدنية، ومن نوافذ التمويل العابر للحدود، وخاضت معاركها بالشعارات، حتى أطلت برأسها على سدة الحكم فى مشهد لم تكن يوما جديرة به، وحين دان لها المقام، أسفرت عن وجهها الحقيقي، فانقلبت على الوطن وأهله، وتحول كرسي الرئاسة إلى أداة تصفية هوية وتفكيك دولة، وبدأ مشروع التمكين الإخواني يعيد صك مؤسسات مصر على مقاس الجماعة، وكادت السيادة أن تستبدل بالولاء لمرشد، والعلم يطوى تحت راية الجماعة.
رجل من صلب الدولة
ولولا أن خرج رجل من صلب الدولة، من مدرسة العسكرية الوطنية، رجل كان يرى ما لا يراه غيره، ويفكر بميزان التاريخ لا بأوهام اللحظة، لكانت مصر اليوم بين ركام الذكرى، ذلك الرجل هو الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع آنذاك، الذى لم يختر المواجهة عن تهور، بل اختار إنقاذ الوطن عن إدراك، رفض أن يرى مصر تختطف من أهلها، وسمع نداء الملايين فى الشوارع، لا بهتافهم فحسب، بل بدموعهم، بخوفهم، بقلوبهم التي أنقذت مصر قبل أن تنقذها الجيوش.
كان قرار 30 يونيو لحظة فاصلة في تاريخ الأمم، انتفضت فيها الإرادة الوطنية، وتقدمت الأمة خلف قائد اختار الوطن، لا الحزب، واختار الشعب، لا الجماعة، واختار التاريخ، لا المكاسب العاجلة، ومنذ تلك اللحظة، بدأت معركة استرداد الدولة، حجرًا حجرًا، ومؤسسةً مؤسسة، وهويةً وهوية، لم يكن الطريق مفروشا بالورود، بل كان مفخخا بالألغام، بالتشكيك، بالمقاطعة، بالمؤامرات العابرة للقارات، ومع ذلك، صمدت مصر، وصعدت.
أكثر من عشر سنوات مضت، لم تكن نزهة، بل كانت معركة بناء في زمن هدم، ومواجهة فكر في زمن تشويه، واستعادة دولة في إقليم يتساقط، ومع كل يوم، تبرهن الأيام أن ثورة 30 يونيو لم تكن كما زعق المرجفون، ولا لحظة انفعال كما ادّعى الحالمون، بل كانت تصحيحًا لمسار التاريخ، وتثبيتًا لهوية الدولة، ونقطة البدء لجمهورية جديدة، تُبنى بالعقل، وتحيا بالإرادة، وتنهض بقائدٍ حمل الوطن على كتفيه، وحماه بصدره، وسار به من ظلام التآمر إلى نور الاستقرار.