و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

 في كل دقيقة، تولد فكرة على منصة رقمية تتحول على الفور إلى «خبر» يتناقله المئات دون تمحيص. خلال ساعات، تصبح قضية رأي عام، وقد تدفع حكومة لنفي ما لم يحدث او ما تم تضخيمه، ومواطنًا للقلق مما لا وجود له. هذه هي المعركة الحقيقية في زمن السرعة: معركة من يصل أولًا إلى العقول… الحقيقة أم الشائعة؟

رغم تعدد المبادرات الحكومية لمواجهة الشائعات، مثل برنامج «تصدوا معنا» لوزارة الشباب والرياضة، وورش العمل التي تنظمها الوزارات والجامعات المختلفة لرفع الوعي بمخاطر حروب الجيل الخامس، والمنصات الإعلامية الحكومية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد الأكاذيب؛ إلا أن الاستراتيجية السائدة ما زالت تتحرك وفق منطق الدفاع لا الهجوم، والتصحيح لا الوقاية.

وفي عالم لا ينتظر أحدًا، يصبح التأخر في الرد مساحة تمنحها الشائعات للتمدد. ما كان في الماضي يستغرق أيامًا للتحقق والانتشار، أصبح اليوم يأخذ ساعات، وفي بعض الحالات دقائق فقط، في ظل وقت الفراغ ووجود أغلبية المصريين متصلين باستمرار بالإنترنت، وانتشار ثقافة “بقولك سمعت كذا” و"شفت اللي حصل" حيث تُتداول الأخبار غير المؤكدة بسرعة بين الأصدقاء والجيران، مما يجعل السيطرة على تدفق الشائعات أكثر تحديًا من أي وقت مضى.

وتتضاعف خطورة الشائعات على المستوى المحلي، حيث البيئة الحاضنة أكثر استقبالًا بسبب العلاقات الاجتماعية القريبة والقدرة العالية على تداول المحتوى عبر مجموعات الجيران والأقارب والعمل. لقد شهدت بنفسى في اكثر من محافظة لدى اصدقاء بها كيف تنتشر رسالة عبر مجموعة واتساب واحدة لتصبح حديث الحي أو القرية بأكملها خلال دقائق. وتتحول منصات التواصل الاجتماعي المحلية — مثل مجموعات “الواتساب” وصفحات الأحياء — إلى قنوات انتشار مكثّف وسريع، ما يجعل التأثير مباشرًا على الأمن المجتمعي، والثقة في الخدمات العامة، وتماسك الناس حول رواية مشتركة للواقع.

 التحليل قبل التصديق

الشائعة لا تنتشر فقط لأنها كاذبة، بل لأنها تُشبع مشاعر الخوف والفضول والسعي لفهم الواقع المعقد عبر سردية مبسطة تقوم علي حاصل ضرب الأهمية في الغموض. لذلك، علينا تمكين المواطنين من التحليل قبل التصديق، والبحث قبل المشاركة، ليصبح المجتمع مُحصَّنًا وواعٍ. دول عديدة انتقلت من فكرة «تكذيب الشائعة» إلى «تحصين الجمهور» عبر نماذج التفكير النقدي ومهارات التحقق الفوري من المعلومات، وهي خبرات يمكن لمصر الاستفادة منها بمرونة وابتكار.

وتشير التجارب الدولية — من الخليج إلى أوروبا — إلى أهمية مبادرات «التطعيم المعرفي» التي تكشف للناس مسبقًا أساليب الخداع الرقمي وكيفية صناعة الوهم. هذا الاستثمار في الوعي، وإن بدا بطيئًا، إلا أنه الأكثر تأثيرًا على المدى الطويل. ويمكن لمصر تطبيقه في المدارس والجامعات ومراكز الشباب عبر محتوى تفاعلي وقصص وألعاب تعليمية تعلم الشباب كيف يفككون الرسائل الموجهة ويحمون عقولهم بأنفسهم.

وفي المقابل، تبقى التكنولوجيا أداة داعمة لا بديلًا عن المصداقية؛ فالثقة لا تُفرض، بل تُبنى عبر تواصل شفاف وسريع يسبق الشائعة لا يلحق بها. ومن هنا تبرز أهمية تدريب القيادات المحلية والمتحدثين الرسميين على إدارة الأزمات المعلوماتية، ودعم الشبكات المجتمعية والشبابية للترويج للحقيقة في نفس الفضاء الذي تنشط فيه الشائعة، والتسريع بإصدار اللائحة التنفيذية لقانون حماية البيانات الشخصية الصادر في يوليو ٢٠٢٠. إضافة إلى ذلك، إنتاج محتوى توعوي جذاب يخلق “حصانة إدراكية” يعيد للمجتمع ثقته بالمعلومة ويجعل تداول الحقيقة عادة أصيلة، حتى يصبح كل مواطن مشاركًا فاعلًا في حماية وعي مجتمعه.

تمتلك مصر ما يلزم للانتقال إلى نموذج مختلف: بنية مؤسسية قوية، جمهور شاب يشكل غالبية مستخدمي الإنترنت، وقدرات تقنية تتطور بسرعة. التحدي ليس في الأدوات، بل في ترسيخ يقين جديد لدى المواطن بأن الحقيقة حقه وواجبه في آن واحد، وأن ما ينشره ليس تفصيلاً صغيرًا بل قد يكون فارقًا بين الثقة والشك، وبين الاستقرار والاضطراب الشائعة ليست معلومة مضللة فقط، بل مشروع لتآكل الثقة وهدم اليقين. وإذا كانت حروب الجيل الخامس تستهدف الروح المعنوية قبل أي شيء آخر، فإن مواجهة الشائعات هي حماية للمعنويات الوطنية قبل كونها حماية للمعلومات الرسمية. الحقيقة يجب أن تصل أولًا… لتبقى أقوى… ولتنتصر دائمًا.

تم نسخ الرابط