و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

في كل مدينة مصرية، تحمل المقابر ذاكرة المكان وروح الناس، لكنها اليوم صارت عنوانًا لأزمة عمرانية واجتماعية متشابكة، تتقاطع فيها القوانين بالدين والثقافة والكرامة الإنسانية، فمنذ صدور قانون تنظيم الجبانات رقم 5 لسنة 1966، سعى المشرّع إلى ضبط إنشاء الجبانات وإدارتها ومنح السلطات المحلية صلاحية وقف الدفن لعشر سنوات قابلة للتجديد، أملاً في مواجهة الضغط على المقابر القائمة، غير أن التكدس السكاني والامتداد العمراني العشوائي جعلا هذا التوجه يصطدم بواقع أكثر تعقيدًا.

منذ عام ٢٠٢٢، برزت محاولات حكومية وتشريعية لتحديث الإطار المنظّم للجبانات بما يتلاءم مع الواقع الجديد، ويُدخل التقنيات الحديثة في إدارة المقابر ورقمنتها، مع تعزيز صلاحيات المحافظات في الرقابة والمتابعة، لكن غياب منظومة قانونية متكاملة أبقى الإدارات المحلية مقيدة بلوائح قديمة لا تواكب التغيرات السكانية.

على الصعيد التنفيذي، أطلقت بعض المحافظات عام 2025 حملات رقابية دورية لإزالة المخالفات ومنع البناء غير المرخص داخل الجبانات، إلى جانب متابعة القائمين عليها لضمان الالتزام بالضوابط. وهي جهود تشير إلى إدراك متزايد بأن ملف الدفن لم يعد مسألة خدمات، بل قضية إدارة حضرية وكرامة إنسانية.

تشير بيانات عام 2024 إلى أن عدد الوفيات في مصر تجاوز 610 آلاف حالة، ما يبرز حجم الضغط على المقابر، خاصة في المدن الكبرى. ومع ارتفاع أسعار المدافن إلى نحو 250 ألف جنيه في بعض المناطق مثل مدافن أكتوبر ووادي الراحة، تحوّل الدفن نفسه إلى عبء اقتصادي على الأسر محدودة الدخل.

وتتفاقم الأزمة حين نجد جبانات أُنشئت وسط الكتل السكنية، لتتحول إلى مصدر تلوث بيئي ومظهر عمراني غير ملائم. بل إن بعض المناطق الطرفية، مثل طريق الواحات، شهدت سكن عدد من اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين داخل نطاقات المقابر، ما أدى إلى تفشي فوضى التسول والعشوائيات، لتصبح المقابر مرآةً لأوجه الهشاشة الاجتماعية التي تتجاوز حدود التنظيم العمراني.

ورغم قتامة الصورة، تبرز تجارب ملهمة؛ ففي سانت كاترين، نجح الحوار المجتمعي مع شيوخ القبائل في صياغة نموذج للتنظيم يحترم الأعراف ويضمن الانضباط، مؤكّدًا أن الشراكة بين الدولة والمجتمع هي الطريق الأمثل لإدارة ملف بالغ الحساسية.

أما في السويس، فتُظهر التجربة الحاجة إلى إعادة توزيع الجبانات - والتي أفضل تسميتها بالمقابر - بما يوازن بين النمو العمراني وحق المواطنين في دفن كريم، بعيدًا عن محاولات بعض الأطراف لتسييس الملف وتحويله إلى مادة للجدل.

إنّ أي إصلاح حقيقي لهذا الملف يتطلب مزيجًا من الثقة والشفافية والحوار، مع خطط تضمن التوسع الأفقي المنظم وتراعي المعايير البيئية والصحية، وتوفر مقابر بأسعار مناسبة للجميع. فالقضية في جوهرها ليست إدارة موتى، بل احترام حياة الأحياء وحقوقهم في بيئة حضرية متوازنة.

ولهذا، فإن الحملة الوطنية لتنظيم وإدارة الجبانات تمثل خطوة ضرورية لإعادة هذا الملف إلى مساره الطبيعي كخدمة عامة وإنسانية، تُكرم الإنسان في حياته وبعد وفاته، وتعيد الانسجام بين القانون والمجتمع والعمران، وذلك مع ضرورة التفرقة بين المدافن الأهلية التي تخضع لاحتياجات الناس المباشرة، والمدافن الأثرية التي تمثل تراثًا وذاكرة حضارية لا يجوز التعامل معها بمنطق الخدمات اليومية. فالاصلاح الحقيقي في هذا الملف لا يقاس بعدد القرارات، بل بقدرة الدولة والمجتمع على بناء ثقة جديدة، تُكرم الأحياء كما تُكرم الموتى.

تم نسخ الرابط