مع اقتراب افتتاح المتحف المصري الكبير، تبرز فرصة حقيقية لأن يتحول هذا الحدث من مجرد فعالية ثقافية إلى مناسبة وطنية ذات طابع متجدد، من هنا يجيء اقتراحي بأن يُخصَّص يوم وطني للحضارة المصرية القديمة، يكون احتفاءً بهوية هذا الشعب وجذوره التاريخية، لا مجرد إضافة جديدة في جدول الإجازات الرسمية.
الفكرة تنطلق من إدراك بسيط لكنه جوهري: أن الحضارة ليست ماضيًا نحتفظ به في المتاحف، بل منظومة فكر وسلوك وهوية تُلهم الحاضر وتصنع المستقبل، فحين يعرف الشباب أن أجدادهم هم من أسسوا أول دولة عرفها التاريخ، وأن فكرة التنظيم والإدارة والقانون والتعليم وُلدت على هذه الأرض، فإن وعيهم بالوطن لن يكون مجرد انتماء عاطفي، بل التزام حقيقي بالمشاركة في بنائه وتطويره.
ولذلك، لا يُراد من هذا اليوم أن يكون عطلة عن العمل، بل حالة وعي وطنية تستعيد فيها المؤسسات التعليمية والثقافية والشبابية دورها في بناء الشخصية المصرية، يمكن أن يتحول يوم الحضارة إلى منصة سنوية لتكامل الأدوار بين وزارات الشباب والثقافة والتعليم، بحيث تُطلق برامج وأنشطة في المدارس ومراكز الشباب والأندية تعرف الأطفال والشباب بتاريخهم بلغة قريبة منهم، وتربط القيم الحضارية القديمة مثل العمل والإتقان والنظام بالواقع المعاصر.
من الطبيعي أن يعترض البعض بحجة أن عدد الإجازات في مصر كبير، لكن الحقيقة أن هذا اليوم ليس “إجازة” بالمعنى المتداول، بل “تجديد وعي”. فالتجارب العالمية تُظهر أن الدول التي تكرّم تاريخها وتحتفي برموزها لا تتراجع في الإنتاج، بل تزداد قوة وتماسكًا. فالولايات المتحدة تحتفل بيوم الاستقلال، وفرنسا بيوم الباستيل، واليابان بيوم التأسيس الوطني، وكلها أيام تشحن طاقة المجتمع بمعنى العمل والانتماء، لا العطلة.
شهر الحضارة المصرية
إن تحويل شهر نوفمبر إلى “شهر الحضارة المصرية” هو تطوير طبيعي للفكرة، ليصبح مساحة زمنية كافية لتفاعل المؤسسات والمجتمع مع الحدث. خلال هذا الشهر، يمكن أن تتكامل الجهود الرسمية والإعلامية والمجتمعية لتقديم مصر للعالم من زاوية قوتها الحقيقية: حضارتها الممتدة. ويمكن أن تُطلق مبادرات طلابية وشبابية وفنية للتعريف بالتراث، ومسابقات إبداعية في الفن والمسرح والبحث العلمي تستلهم روح المصري القديم الذي كان أول من جمع بين العلم والإيمان، بين الحرفة والفكر، بين الفن والدولة.
ويجيء اقتراحي بأن يُعلن رئيس الجمهورية هذا اليوم خلال كلمته إلى العالم بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير، وأن يدعو الشعوب والمؤسسات الثقافية الدولية إلى المشاركة فيه كل عام، ليكون مناسبة عالمية تحتفي فيها مصر والعالم بالحضارة التي أنارت طريق الإنسانية. إن في ذلك رسالة واضحة بأن مصر لا تنغلق على ماضيها، بل تفتح صفحات تاريخها أمام العالم بروح من المشاركة والفخر والمسؤولية.
إن تخصيص يوم وطني للحضارة المصرية ليس مجرد احتفال رمزي، بل دعوة لإحياء منظومة القيم التي قامت عليها هذه الحضارة: احترام العمل، تقديس المعرفة، والاعتزاز بالانتماء. هو يوم نعيد فيه اكتشاف أنفسنا ونمنح الأجيال الجديدة فرصة لرؤية مصر كما يجب أن تُرى: دولة تمتد جذورها في التاريخ، وتتجه بثقة نحو المستقبل.






