و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

في عالم اليوم، لا يمكن لأي ديمقراطية  أن تكون حقيقية إذا تركت المال السياسي خارج رقابة صارمة. فهو قوة قادرة على تحريف الإرادة الشعبية وشراء النفوذ بعيدًا عن الأفكار والبرامج والكفاءة. ويُقصد بالمال السياسي استخدام المال للتأثير غير المشروع على اختيارات الناخبين أو صانعي القرار، سواء عبر شراء الأصوات، أو تمويل الحملات خارج الأطر القانونية، أو تقديم عطايا وهدايا، أو التأثير على السياسات العامة بما يخدم مصالح ضيقة، بعيدة عن الصالح العام.

والفارق الجوهري بين التمويل المشروع والفاسد يتحدد عبر ثلاثة عناصر: المصدر: قانوني أم مجهول، الغاية: دعم المنافسة أم شراء النفوذ، والشفافية: إفصاح ومحاسبة أم إنفاق سري.

ورغم أن الإنفاق جزء طبيعي من أي حملة انتخابية، فإن تضخمه خارج الحدود المشروعة يعيد التذكير بأن السياسة في جوهرها نشاط فكري وخدمة عامة، يقوم على الأفكار والبرامج والكفاءة، لا على القوة المالية. ومن هنا تأتي “العودة إلى الأصول” كضرورة وطنية لإعادة الثقة في العملية الديمقراطية، وللتأكيد على أن الفائز الحقيقي في أي انتخابات هو من يستحق، لا من يملك أكبر قدر من الموارد.

تتجلى مظاهر المال السياسي في أشكال متعددة مثل شراء الأصوات، والإنفاق خارج السقوف القانونية، واستخدام الجمعيات الخيرية كغطاء، والتبرعات المشروطة، والتأثير الإعلامي والرقمي المدفوع سرًا، وهو ما يجعل من المفهوم أوسع وأشمل من مفهوم الرشوة الانتخابية. وهذه الممارسات، مهما اختلفت أدواتها، تؤدي إلى نتيجة واحدة: إضعاف نزاهة المنافسة وتحويل السياسة إلى سباق موارد بدل أن تكون منافسة أفكار وبرامج.

التجارب الدولية

وقد أثبتت التجارب الدولية أن الحد من المال السياسي ممكن وقابل للتحقيق. ففي الولايات المتحدة، ورغم منظومة الإفصاح، ما زال النفوذ المالي لجماعات المصالح يؤثر على السياسات العامة. أما ألمانيا فاعتمدت مراجعة دقيقة سنويًا لتقارير الأحزاب أمام البرلمان والمحكمة الدستورية، مما عزز من الشفافية والرقابة.

وفي كندا والدول الإسكندنافية، أسهمت السقوف الصارمة ودمج التمويل العام في خلق منافسة أكثر عدالة. وفي كوريا الجنوبية وتايوان، أصبحت الرقمنة أداة مركزية تُنشر من خلالها بيانات الإنفاق لحظة بلحظة، بينما اعتمدت الهند والبرازيل على الرقابة المجتمعية النشطة لكشف شراء الأصوات وتقليص نفوذ المال غير المشروع.

من هذه التجارب يتضح أن المواجهة لا تحتاج إلى إصلاحات معقدة بقدر حاجتها إلى إرادة تنظيمية وخطوات عملية فورية تشرف علي تنفيذها الهيئة الوطنية للانتخابات: نشر تقارير مالية مختصرة، وإنشاء بوابة رقمية موحدة للإعلانات الدعائية، وتوحيد مساحات الدعاية حول اللجان، ووضع سقوف للإعلانات الرقمية، وفتح القاعات العامة للمرشحين الأقل قدرة مالية، وتفعيل آليات التبليغ السريع عن شراء الأصوات، وتدريب العاملين في اليوم الانتخابي على كشف المخالفات لحظيًا.

إن هذه الإجراءات البسيطة في ظاهرها، العميقة في أثرها، تعيد السياسة إلى معناها الأصلي. فالمال السياسي لا يشوّه مسار الانتخابات فحسب، بل يعيد تشكيل ممارسة السلطة ذاتها ويؤثر على أولويات الحكم.

إن حماية السياسة من نفوذ المال ليست خيارًا، بل ضرورة لاستعادة الثقة وتكافؤ الفرص. فعندما تُصان الانتخابات من المال الفاسد، تستعيد الأفكار قيمتها، ويعود صوت المواطن مصدر الشرعية الوحيد. وهنا فقط تبدأ السياسة في أداء وظيفتها الحقيقية. وهذا هو جوهر التوجيه الذي نشره السيد الرئيس علي صفحته علي شبكة الفيس بوك يوم ١٧ نوفمبر ٢٠٢٥ وطالب فيه الهيئة الوطنية للانتخابات بضرورة كشف الإرادة الحقيقية للناخبين وصون حقهم في اختيار ممثليهم.

يوسف ورداني 
مدير مركز تواصل مصر للدراسات - مساعد وزيرى الشباب والرياضة السابق

تم نسخ الرابط