لكل أمة لحظات في التاريخ تحاول أن تنساها، لكنها سرعان ما تكتشف أن النسيان ليس علاجًا، بل إعادة لتكرار الخطأ في شكل جديد. الأمم الناضجة ليست تلك التي تخلو صفحات تاريخها من الأخطاء، بل تلك التي تعرف كيف تُدير علاقتها بماضيها وتحوّل خبرته إلى وقود لبناء المستقبل.
هذا التحدي يصبح ملموسًا عندما يظهر الماضي أمامنا في شكل شخصيات أو أحداث يثير ظهورها نقاشًا حيويًا في المجتمع. فعلى سبيل المثال، عقب احتفال المتحف المصري الجديد، أثار ظهور بعض رموز الماضي جدلاً واسعًا على مواقع التواصل. يتركز النقاش في مجمله حول إمكانية فصل الإنجاز عن الأخطاء وجدواه، وليس حول الدفاع أو الهجوم على حقبة مبارك بأكملها كما كان يحدث في فترات سابقة، وهو ما يبرز التحدي الأساسي: كيف يمكن إدارة التاريخ بشكل عقلاني دون الانحياز؟
التجارب الدولية تقدم نموذجًا مهمًا. في إسبانيا بعد رحيل فرانكو، تم اعتماد “الميثاق الوطني للصمت” للانتقال السلس إلى الديمقراطية مع مراجعة تدريجية للتاريخ. في جنوب أفريقيا، أنشأت لجنة “الحقيقة والمصالحة” لتفكيك منظومة الكراهية دون فقدان المؤسسات. وفي أوروبا الشرقية، أعيد توجيه المؤسسات مع الاستفادة من الخبرات المكتسبة وتصحيح الأخطاء البنيوية.
الذاكرة الوطنية
هذه الأمثلة تؤكد أن إدارة الذاكرة الوطنية عمل سياسي استراتيجي: يمكن للمجتمع أن يفصل بين تقييم الأشخاص واستمرار الدولة في مسارها العام، وأن يستخلص الدروس من الأخطاء والإنجازات معًا، دون الانغماس في الخصومة أو النسيان.
فهم التاريخ بهذه الطريقة يحول الماضي من عبء إلى مصدر معرفة. المجتمع القادر على تقييم الإنجازات والأخطاء بشكل متوازن، هو المجتمع الذي يمتلك أدواته للنمو بثقة، وتحويل الصراعات السابقة إلى طاقة بناءة، مع الحفاظ على استقرار الدولة واستمرارية مؤسساتها.
وفي النهاية، التصالح مع التاريخ ليس دفاعًا عن أحد، بل آلية لتعزيز الحكم الرشيد، وإطلاق طاقة المجتمع نحو المستقبل، بحيث يصبح التعلم من الماضي قاعدة لبناء الجمهورية الجديدة، بغض النظر عن الأشخاص أو الأنظمة السابقة. ما المسؤولية اليوم تقع على الجميع: أفرادًا ومؤسسات، للتعلم من الماضي بحكمة، والاستثمار في المستقبل بثقة.




