و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

شهد المجتمع المصري في عام 2024 ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الطلاق، إذ تجاوزت الحالات 273 ألف حالة وفقًا لبيانات النشرة السنوية للزواج والطلاق الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 30 نوفمبر 2025. هذه الزيادة ليست تضخمًا رقميًا يمكن تجاوزه، بل مؤشر واضح على خلل بنيوي في قدرة الأسرة المصرية على الصمود. ففي الحضر وحده سُجلت أكثر من 158 ألف حالة بنسبة نمو 5.1%، وهو ما يعكس ضغوط الحياة الحضرية السريعة والكلفة المعيشية المرتفعة، مقابل زيادة أقل حدّة في الريف الذي ما زالت شبكات الدعم الاجتماعي فيه أكثر تماسكا.

ورغم ضخامة الأرقام، فإن الصورة المعلنة لا تمثل الواقع كاملًا. فالإحصاءات الرسمية تغفل الطلاق الشفوي غير الموثق، والانفصال الفعلي داخل البيت دون إنهاء قانوني، والعلاقات المنهارة التي تستمر لاعتبارات اجتماعية. كما أن المعرفة العلمية بالظاهرة شبه غائبة؛ فخلال أكثر من عقدين لم تُنجز سوى دراستين جادتين حول الطلاق بين الشباب، في حين تغير المجتمع وطرائق تفاعله بوتيرة أسرع بكثير من قدرة البحث على المتابعة.

وتكشف البيانات الحديثة أن أعلى نسب الطلاق تأتي بين الحاصلين على الشهادة المتوسطة، وهي الفئة الأكثر تعرضًا لضغوط المعيشة والأضعف دعمًا من حيث الإرشاد الأسري أو الخدمات النفسية. أما متوسط سن الطلاق — 40.8 سنة للرجال و34.6 سنة للنساء — فيكشف أن الانفصال لا يقتصر على زيجات قصيرة، بل يمتد لزيجات استمرت سنوات قبل أن تنهار تحت وطأة خلافات تراكمت دون حلول. ويظل لافتًا، استنادًا لبيانات سابقة، أن 15% من حالات الطلاق تقع خلال السنة الأولى للزواج، و30% خلال أول ثلاث سنوات، ما يعكس ضعف الاستعداد النفسي والمالي للزواج، وسرعة اتخاذ القرار دون تصور واقعي للحياة المشتركة.

ويتوازى ذلك مع ارتفاع حاد في أحكام الطلاق النهائية التي تجاوزت 14 ألف حكم بزيادة 32.9% عن عام 2023، معظمها في الحضر بنسبة تقارب 96%. كما سجلت أحكام الخلع أكثر من 11,900 حكم، ما يشير إلى رغبة متزايدة لدى النساء في إنهاء علاقات لم تعد قابلة للاستمرار، وتحول الخلافات الزوجية من مساحة الإصلاح العائلي إلى ساحة النزاع القانوني، في ظل تراجع دور العائلة الممتدة وضعف مؤسسات الوساطة الاجتماعية.

التحولات المجتمعية 

وتزداد خطورة الظاهرة مع غياب إطار معرفي منظم يفكك أسباب الارتفاع، ويتتبع التحولات الثقافية والاقتصادية والإعلامية التي تدفع قرارات الانفصال. كما تفتقر مصر لدراسات مقارنة تستفيد من تجارب دول احتوت الظاهرة عبر سياسات ممنهجة. وفي ظل هذا الغياب، تبدو الجهود الحكومية — ومنها برنامج “مودة” ووحدة “لم الشمل” — خطوات مهمة لكنها ما تزال في طور البناء، ولا يمكن تقدير أثرها الحقيقي قبل تراكم سنوات من العمل والتقييم، خاصة أن التراجع النسبي الذي ميز عام 2020 لم يستمر، وعادت الأرقام للارتفاع.

ويظهر في الخلفية تأثير متزايد لبعض أنماط العلاقات الغربية لدى فئات من الشباب، خاصة في الطبقتين المتوسطة والعليا، سواء عبر العلاقات خارج إطار الزواج أو عبر الطروحات المتعلقة بالزواج محدد المدة التي تمس جوهر العلاقة الزوجية، أو حتى بالطلاق عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويرتبط ذلك بضعف الوازع الديني لدى البعض وبالتعرض الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي دون ضوابط ثقافية قادرة على الفرز والتمييز.

إن طلاق 2024 ليس رقمًا عاليًا في سجل الإحصاء، بل جرس إنذار حقيقي بأن مؤسسة الزواج في مصر تواجه أزمة بنيوية تتطلب تدخلًا شاملًا في التعليم والإعلام وبرامج التأهيل النفسي والاجتماعي. ولا يمكن الحد من الظاهرة دون بيانات دقيقة، وبحوث ميدانية واسعة، وسياسات تستهدف جذور الأزمة في المحافظات الأكثر تأثرًا، وعلى رأسها محافظة بورسعيد. فالمجتمع الذي لا يواجه مشكلاته بوضوح لا يستطيع بناء أسر قوية ولا الحفاظ على تماسكه الاجتماعي في مواجهة التحولات السريعة.

إن أزمة الطلاق هي في جوهرها أزمة بناء الأسرة، وكل تأخير في مواجهتها يضاعف الفجوة… إلى حد قد لا تحتمله الروابط الاجتماعية في السنوات القادمة.

تم نسخ الرابط