لم يكن افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا عاديا في سجل الوطن، بل كان يوم ميلادٍ جديد لمصر، ميلادا يعيد إلى الأذهان مجد الأجداد وعبقرية الإنسان المصري، الذي علّم الدنيا معنى الحضارة حين كانت الأرض بعد تفتش عن لغتها الأولى، لقد انتفضت الروح المصرية في ذلك اليوم، ترفرف بالعزة، وتزهو بالانتماء، كأن الأهرامات نفسها انتصبت في فخر لتصفق لهذا الحدث العظيم.
في تلك اللحظة، لم تكن الفرحة محصورة في الميادين، بل عمت القلوب والعقول والشاشات، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور فرعونيةٍ مذهلة صنعها الذكاء الاصطناعي، لكن المصريين جعلوها لغة جديدة للفخر، يحدثون بها العالم بلغته الحديثة ليقولوا نحن أصل الحكاية، نحن أول من كتب التاريخ، نحن من صاغ مفهوم الدولة والحكم والمعرفة والجمال.
وكأن مصر استعادت صوتها القديم، يخرج من بين جدران المتحف ليهمس في آذان الدنيا: ها أنا ذي… لم أمت، بل كنت أتهيأ لقيامتي الكبرى، يا له من مشهد مهيب حين تمتزج الحداثة بروح التاريخ، فيتحول الذكاء الاصطناعي إلى وريث للريشة الفرعونية، والضوء الرقمي إلى امتداد لنور الشمس الذي قدسه أجدادنا منذ آلاف السنين، لقد أصبح كل منشور، وكل صورة، وكل تعليق على السوشيال ميديا مرآةً للفخر الوطني، وصرخة ناعمة تقول: هذه مصر… لا يشبهها وطن.
الوطنية في تلك اللحظة لم تكن شعارا ولا احتفالا بروتوكوليا، بل كانت طاقة وجدانية خالصة، إحساسا عميقا بأننا ننتمي إلى أرضٍ خلقت لتقود، لا لتقاد، ولتعلم لا لتتعلم، أن تكون مصريا يعني أن تحمل في داخلك عبقرية الفراعنة، وإبداع الحرفيين القدماء، وشجاعة الجند الذين دافعوا عن أرضهم عبر القرون، الوطنية الحقة أن تفخر وتكتب وتعلم، أن تُري العالم من نحن، وما هي حضارتنا، وأن تقول بثقة إننا الدولة التي وجدت قبل أن توجد الدول، وإننا الأصل الذي تفرعت منه الإنسانية.
مصر ليست مجرد اسم على خريطة، بل هي معنى متكامل للعزة والكرامة والشهامة والأصالة، هي بلد القوة والمجد، بلد الرحمة والاحترام، بلد الأمن والأمان، بلد يفيض إنسانية حتى وهو يواجه التحديات، من صحرائها خرجت الحكمة، ومن نيلها انبثقت الحياة، ومن سواعد أبنائها بني التاريخ حجراً فوق حجر حتى صار صرحا خالدا لا تقدر عليه عوامل الزمن، إن مصر حين تفرح، تفرح معها البشرية كلها، لأنها ببساطة وطن الإنسانية الأول، ومهد الفكر والفن والإيمان.
صانعة المستقبل
واليوم، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تستكمل مصر فصلا جديدا من حكايتها الأبدية، المتحف المصري الكبير لم يشيد فقط ليحفظ آثار الأجداد، بل ليعلن أن مصر قادرة على أن تصنع مستقبلها كما صنعت ماضيها، وأنها ما زالت تملك من الإرادة والرؤية ما يجعلها في طليعة الأمم، فالمتحف ليس جدرانا من الحجر والرخام، بل رسالة حضارية تقول إن مصر لم تعد تكتفي بأن تكون صاحبة التاريخ، بل تريد أن تكون أيضا صانعة المستقبل، وأنها تؤمن بأن من لا يحترم ماضيه لن يكون له غد.
سلام عليك يا مصر، يا أنشودة الخلود، ويا نبض الحضارة الأبدية، سلام على أهراماتك التي تحرس الزمان، وعلى نيلك الذي يسقي العقول قبل الحقول، وعلى شعبك الذي إذا اشتدت الخطوب نهض كأنه جيش من الفخر لا يقهر، سلام على كل حجرٍ يحمل نقشًا من نور، وعلى كل مصريّ يرى في وجهك عنوان الكرامة، إنكِ يا مصر لا تقاسين بمساحة ولا تختزل في زمن، لأنكِ ببساطة حكاية الأرض التي بدأت بك، ولن تنتهي إلا بك.
مصر، يا أم الدنيا كما سميت بحق، يا من تجري في عروق أبنائك كالدم، يا من علمت العالم معنى البناء والكرامة والعقيدة والعلم، فيك اجتمع النور والحكمة، وفيك التقت الحضارة بالإيمان، وفيك ولد الجمال على يد فنانيك الذين نحتوا الحجر كأنه لحم حي، لك في كل قلب مصري متحف كبير من الحب، وفي كل عين دمعة فخر، وفي كل نفس وعد بالوفاء، سلام عليكِ أيتها التي علمتنا أن الكبرياء لا يشترى، وأن المجد لا يستعار، وأن من يعرف قدر وطنه يعلو به مهما قست الأيام، لقد كنت وما زلت، يا مصر، القصيدة التي كتبها الله بمداد النيل، والأنشودة التي ترددها الإنسانية منذ فجر الوجود.








