و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

 لم يعد العمل الأهلي في أي مجتمع بمنأى عن السياسة، فالتجارب الدولية تُظهر أن الجمعيات الأهلية يمكن أن تتحول إلى منصات نفوذ سياسي، سواء عبر تقديم الخدمات الاجتماعية لكسب الشعبية أو من خلال بناء شبكات تمويل وعلاقات تُمهد لدخول المعترك الانتخابي. هذه الظاهرة ليست مقصورة على دول بعينها، بل تتكرر بصور مختلفة في الهند وأمريكا اللاتينية وأوروبا والشرق الأوسط. وفي مصر، ورغم أن العمل الأهلي ظل لعقود رافدًا أساسيًا للتنمية وخدمة المواطنين، فإن العلاقة بينه وبين السياسة اتخذت مسارات أكثر تعقيدًا، ما يستدعي النظر إليها بموضوعية وهدوء.

بدأ هذا التداخل في سبعينيات القرن الماضي مع صعود التيارات الإسلامية، حيث استخدم الإخوان المسلمون والسلفيون الجمعيات الخيرية كأدوات لتعزيز حضورهم المجتمعي وتقديم الخدمات في المناطق الشعبية والريفية، وهو ما منحهم قاعدة اجتماعية واسعة مهدت لاحقًا لدخولهم بقوة إلى الساحة السياسية. ومع مرور الوقت، لم يقتصر الأمر على التيارات الإسلامية، بل امتد ليشمل الأحزاب الحاكمة المتتالية التي أدركت أن العمل الأهلي يمثل قناة مؤثرة لربط الدولة بالمواطنين، فشجعت بدورها على تأسيس جمعيات ومؤسسات تعمل بشكل موازٍ لأنشطتها السياسية.

في السنوات الأخيرة، اتجه بعض السياسيين إلى تأسيس جمعيات في دوائرهم أو مناطق نفوذهم، بهدف توسيع شبكاتهم الاجتماعية وتقديم خدمات مباشرة للمواطنين. ورغم أن ذلك يسهم في تلبية احتياجات واقعية، فإنه يعزز في الوقت نفسه من حضورهم السياسي ويخلق حالة من الخلط بين ما هو خدمي وما هو انتخابي. وتزداد فاعلية هذه الجمعيات بشكل خاص في مواسم الانتخابات أو خلال المناسبات العامة والدينية، حيث تتوسع أنشطتها وتظهر بقوة في المشهد المحلي بما يرسخ ارتباطها بالعمل السياسي المباشر، إلى الحد الذي يجعلها أحيانًا تُعتبر امتدادًا غير رسمي للحملات الانتخابية. ويتكرر الأمر في مجال التدريب والتأهيل، حيث تستثمر بعض الجمعيات في بناء قدرات الشباب، وهو دور مهم، لكن توجيه هذه الجهود لخدمة أجندات حزبية أو انتخابية يثير تساؤلات حول عدالة توجيه الدعم المقدم من الدولة أو الجهات المانحة.

انطلاق نحو مواقع سياسية أوسع

كما أصبح موقع رئيس الجمعية أو عضو مجلس إدارتها في حالات عديدة منصة للانطلاق نحو مواقع سياسية أوسع، سواء داخل الأحزاب أو عبر الترشح للبرلمان، وأحيانًا تمتد الطموحات إلى أسرهم أو زوجاتهم. ويضاف إلى ذلك أن بعض السياسيين وأعضاء المجالس التشريعية قد يوظفون شبكة علاقاتهم بالوزراء والمسؤولين التنفيذيين لتسهيل حصول جمعياتهم الأهلية على دعم من الوزارات أو الأجهزة الحكومية، سواء في صورة خدمات أو برامج موجهة للمواطنين. هذا التفاعل ينعكس على زيادة الوزن النسبي والصورة الذهنية الإيجابية لتلك الجمعيات في دوائرها، بما يمنحها قدرة أكبر على جذب المنح الدولية باعتبارها مؤسسات نشطة وذات تأثير ملموس على الأرض.

هذه الصورة تطرح تساؤلًا جوهريًا حول الفاصل بين خدمة المجتمع وتسييس الخدمة. فبينما يظل العمل الأهلي في جوهره فعلًا تطوعيًا يهدف إلى دعم الفئات الأكثر احتياجًا، فإن تحويله إلى أداة سياسية قد يُضعف الثقة في مصداقيته ويؤثر على عدالة توزيع الموارد. غير أن معالجة الظاهرة لا تعني فرض قيود مشددة أو إجراءات عقابية، بل تتطلب تطوير الأطر التشريعية والرقابية بما يضمن الشفافية، ويحقق توازنًا بين حرية العمل الأهلي من ناحية، ومنع انحرافه نحو التسييس المفرط من ناحية أخرى.

وتشير الخبرات العالمية إلى أن الدول التي نجحت في تنظيم العلاقة بين المجالين وضعت قواعد واضحة تمنع استغلال الجمعيات لأغراض انتخابية مباشرة. ففي الهند، على سبيل المثال، تفرض لجنة الانتخابات قيودًا صارمة على استخدام الجمعيات الخيرية كمنصات انتخابية، وتُلزمها بالإفصاح عن مصادر تمويلها بشكل دوري. وفي المغرب، جرى تحديث القوانين المنظمة للجمعيات منذ مطلع الألفية لتشترط الشفافية المالية وتمنع الجمع بين رئاسة الجمعية ورئاسة الحزب في الوقت ذاته، مما ساعد على الحد من تضارب المصالح. أما في ألمانيا، فقد طورت الحكومة نظامًا متوازنًا يتيح للجمعيات الحصول على دعم مالي كبير من الدولة، لكن مقابل التزامها الصارم بالحياد السياسي والخضوع لمراجعة دورية من هيئات رقابية مستقلة.

ومن هذه التجارب يمكن استخلاص أن الطريق الأمثل لمصر لا يقوم على القيود وحدها، بل على تعزيز الشفافية المالية للجمعيات، ووضع ضوابط واضحة تمنع تضارب المصالح بين العمل الأهلي والمناصب الحزبية أو البرلمانية، إلى جانب تشجيع الرقابة المجتمعية والإعلامية كآلية مكملة للرقابة الرسمية. وبهذا الشكل، يمكن الحفاظ على حيوية المجتمع المدني كرافعة للتنمية، وفي الوقت نفسه ضمان حياده عن التوظيف السياسي المفرط.

تم نسخ الرابط