إدارة وقت الفراغ.. معضلة مصر الاولي

قد يظن البعض أن التحديات الكبرى التي تواجه المجتمع مرتبطة بالاقتصاد أو التعليم أو الصحة فقط، لكن الحقيقة أن السؤال الأهم يتعلق بكيفية قضاء الناس لأوقات فراغهم. فإدارة هذا الوقت ليست مسألة ثانوية، بل قضية تمس جودة الحياة بشكل مباشر، وتنعكس على الأسرة والسلوك العام والصحة النفسية. هذا ما لمسته بشكل مباشر خلال عملي ثماني سنوات مساعدا لوزير الشباب والرياضة، ومن أنشطتي في الشأن العام وجولاتي في المحافظات المختلفة.
في السنوات الأخيرة تحولت المقاهي إلى الملاذ الأساسي للشباب، بعد أن تراجعت القدرة على الوصول إلى بدائل أخرى أكثر فائدة. فقد ارتفعت تكاليف الاشتراك في الأنشطة الرياضية والثقافية بصورة تفوق قدرة غالبية الاسر المتوسطة ومحدودة الدخل، كما أصبحت الخدمات الترفيهية مكلفة على شريحة واسعة من الأسر. حتى الجلوس على المقاهي لم يعد في متناول الجميع كما كان في السابق، وهو ما جعل كثيرين يتساءلون ببساطة: أين يذهبون في المساء؟ وكيف يمكن أن يقضوا وقت فراغهم؟
ومع غياب البدائل الميسورة، اتجه كثير من المصريين إلى قضاء ساعات طويلة أمام الإنترنت، خاصة عبر تطبيقات مثل تيك توك، التي تحولت إلى وسيلة أساسية لملء الفراغ. لكن هذا النمط غالبًا ما يقود إلى الإدمان الرقمي وما يصاحبه من ظواهر سلبية، مثل العزلة الاجتماعية، وتراجع الاهتمام بالأنشطة الواقعية، وانتشار أنماط تقليد قد لا تكون دائمًا إيجابية غياب المسارات الآمنة والمتاحة بأسعار مناسبة لقضاء أوقات الفراغ يؤدي إلى ضياع الكثير من الطاقات، ويترك الشباب عرضة للفراغ السلبي وما قد يترتب عليه من عادات غير صحية أو انسحاب من المشاركة الإيجابية في المجتمع. ولهذا فإن التفكير في هذه القضية يجب أن يكون على قدر أهميتها، باعتبارها مدخلًا أساسيًا لتقوية المجتمع وتعزيز قدرات أفراده.
نماذج في دول العالم
في دول أخرى نجد نماذج ملهمة يمكن الاستفادة منها. ففي ألمانيا مثلًا، تدعم البلديات الأندية الرياضية والثقافية الصغيرة لتكون متاحة برسوم رمزية للجميع. وفي فرنسا، تفتح المكتبات العامة والمراكز الشبابية أبوابها حتى ساعات متأخرة، وتقدم أنشطة موسيقية ومسرحية مجانية. أما كوريا الجنوبية فقد أنشأت مراكز مجتمعية رقمية تسمح للشباب بممارسة أنشطة تكنولوجية في بيئة منظمة، بينما توسعت المغرب في إنشاء دور الشباب التي تتيح أنشطة رياضية وفنية بأسعار بسيطة.
هذه التجارب تعكس أن توفير أماكن وخدمات مناسبة لقضاء أوقات الفراغ ليس ترفًا، بل استثمارًا في بناء الإنسان. والمجتمع الذي يوفر لأبنائه خيارات متنوعة وميسورة يجد انعكاس ذلك في سلوك أفراده وحيويتهم وقدرتهم على المشاركة والإبداع. إن الإجابة عن السؤال البسيط: “أين نذهب هذا المساء؟” قد تكون المدخل الحقيقي لحياة أكثر توازنًا وصحة وفاعلية.
إن تحقيق هذه الرؤية يتطلب تعاون الدولة مع المجتمع المدني والقطاع الخاص لتوفير بيئات شبابية متنوعة، وآمنة، وميسورة التكلفة. وفي الوقت نفسه، يجب أن يكون التركيز على توعية الشباب بأهمية إدارة أوقات فراغهم بشكل فعال، وتحفيزهم على الانخراط في أنشطة بنّاءة، ثقافية ورياضية، تعزز قدراتهم ومهاراتهم. بهذا النهج يمكن تحويل ساعات الفراغ إلى مصدر إنتاجية، وإبداع، وقيم إيجابية تعود بالنفع على الفرد والمجتمع على حد سواء.