من جوار الأهرامات حيث كُتبت أولى صفحات التاريخ الإنساني، تُطل مصر من جديد على العالم مع افتتاح المتحف المصري الكبير، في رسالة واضحة تؤكد أن الحضارة المصرية ليست مجرد ماضٍ يُروى، بل طاقة حية تمتد في الحاضر وتصنع المستقبل.
يُعد المتحف المصري الكبير أكبر مشروع ثقافي في تاريخ مصر الحديث، وأضخم متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة. يمتد على مساحة تتجاوز نصف مليون متر مربع، ويضم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية تروي مسيرة الإنسان المصري منذ فجر التاريخ حتى العصر اليوناني الروماني.
ويُعرض فيه لأول مرة المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية في تصميم معماري مدهش تطل واجهته الزجاجية على الأهرامات مباشرة في مشهد يختصر آلاف السنين من الإبداع الإنساني.
وإلى جانب القاعات المبهرة يضم أكبر مركز ترميم وبحث أثري في الشرق الأوسط وأفريقيا مجهزًا بأحدث التقنيات العلمية، ما يجعله مركزًا عالميًا للحفاظ على التراث ونقله للأجيال القادمة. كما يضم مناطق تعليمية وثقافية وتجارية وسينما بانورامية ومساحات للفعاليات الفنية، ليصبح مدينة حضارية متكاملة تعيد تعريف مفهوم المتحف في القرن الحادي والعشرين.
احتفاء عالمي ومكاسب اقتصادية واعدة
حفل افتتاح المتحف المصري الكبير لم يكن حدثًا محليًا، بل مناسبة عالمية تابعتها كبرى وسائل الإعلام من واشنطن إلى طوكيو.
وصفت صحيفة The Guardian المتحف بأنه “أعظم متحف على وجه الأرض مخصص لحضارة واحدة”،
بينما اعتبرته Le Monde الفرنسية “أحد أهم المشاريع الثقافية في القرن الحادي والعشرين”.
أما The New York Times، فكتبت أن “مصر تستعيد مكانتها الحضارية من بوابة الاقتصاد الثقافي”.
كما أشادت اليونسكو والمجلس الدولي للمتاحف بمستوى العرض الهندسي والتقني، الذي دمج بين التكنولوجيا الحديثة والروح التاريخية عبر تقنيات الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي، لتقديم تجربة معرفية غير مسبوقة للزوار.
هذه الإشادة الدولية تمثل أكثر من مجرد تقدير ثقافي إنها فرصة اقتصادية حقيقية. فكل صورة تلتقط أمام المتحف، وكل خبر ينشر عنه، هو دعاية عالمية مجانية للسياحة المصرية. وكل زائر يأتي ليعيش تجربة الحضارة المصرية، يسهم في تحريك عجلة الاقتصاد من النقل والطيران إلى الفنادق والصناعات اليدوية.
قوة اقتصادية
تُشير التقديرات إلى أن المتحف المصري الكبير سيجذب ما بين 6 و8 ملايين زائر سنويًا، بعائدات تصل إلى مليارات الدولارات، ليضع مصر في مقدمة المقاصد الثقافية على مستوى العالم.
وفي الوقت نفسه، حقق قطاع السياحة المصري أداءً تاريخيًا، حيث بلغت الإيرادات خلال العام المالي 2024/2025 نحو 16.7 مليار دولار ، وهو أعلى مستوى في تاريخه ، كذلك استقبلت مصر 15.8 مليون سائح خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025 بزيادة 21% عن العام السابق.
وتتوقع مؤسسات دولية أن تصل الإيرادات إلى 20 مليار دولار سنويًا خلال الأعوام المقبلة مع تطوير البنية التحتية وتنويع أنماط السياحة.
هذه الأرقام تبرز الدور المحوري للسياحة بوصفها صناعة استراتيجية قادرة على جذب العملة الصعبة وتوفير فرص عمل لمئات الآلاف من الشباب. فالسائح الذي يزور المتحف لا يُسهم فقط في دعم السياحة، بل في تنشيط اقتصاد متكامل يمتد من الحرف اليدوية إلى قطاع الخدمات الحديثة.
السياحة كقاطرة للنمو
في عالمٍ تعتمد فيه دول بأكملها على السياحة كمصدر رئيسي للدخل، مثل المالديف التي تمثل السياحة فيها أكثر من 60% من الناتج المحلي، واليونان بنسبة 25%، وإسبانيا التي تحقق أكثر من 80 مليار دولار سنويًا من هذا القطاع ، تأتي مصر باقتصاد متنوع لكنه يمتلك في قطاع السياحة مقومات قادرة على إحداث قفزة نوعية في الناتج القومي إذا أُحسن استثمارها.
ووفقًا للدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، تستهدف خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعام المالي الجاري رفع استثمارات قطاع السياحة والآثار إلى نحو 116.2 مليار جنيه مقابل 72.4 مليارًا في العام السابق، بنسبة نمو تبلغ 60.5%، مع مساهمة القطاع الخاص بنسبة تقارب 99.5% من إجمالي الاستثمارات ، وهو ما يعكس الثقة المتزايدة في مستقبل هذا القطاع الواعد.
فى النهاية ، المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح أثري، بل رؤية اقتصادية وثقافية متكاملة تُعيد تعريف مفهوم القوة الناعمة المصرية.
فمصر، التي منحت العالم أول حضارة إنسانية، تثبت اليوم أنها قادرة على تحويل هذا الإرث العظيم إلى محرك للنمو وفرص للاستثمار، تجمع بين الثقافة والاقتصاد والمعرفة.




