في عمق بعض المجتمعات التقليدية وعلى تخوم المناطق التي ظل القانون فيها لسنوات طويلة اضعف حضورا من العرف، تشكلت ممارسات اجتماعية تجاوزها الزمن وبقيت حاضرة بفعل الموروث الجمعي، ولعل البشعة واحدة من اخطر هذه الممارسات واكثرها اثارة للجدل بوصفها وسيلة بدائية، للفصل في النزاعات واثبات البراءة او الادانة فبين من يتعامل معها باعتبارها جزءا من التراث القبلي الذي لا يجوز المساس به، ومن يراها ممارسة قاسية تتصادم مع العقل والدين والإنسانية، تظل البشعة مادة مفتوحة للصراع بين الماضي والحاضر وبين العرف والقانون.
تقوم البشعة في جوهرها على اخضاع شخص متهم لاختبار جسدي قاس عبر لعق قطعة من الحديد او النحاس بعد تسخينها في النار، حيث يفترض ان النجاة من الحرق دليل براءة بينما يعد الاحتراق علامة ادانة، ويكتسب من يجري هذا الطقس والمعروف بالمبشع مكانة استثنائية داخل الجماعة تتجاوز احيانا مكانة القضاة، ورجال القانون فيتحول الى سلطة رمزية تفصل في المصائر وتحاط احكامه بهالة من القداسة لا تقبل النقاش.
وتستند ثقافة البشعة الى مزيج معقد من الخوف والرهبة والاعتقاد الغيبي، فالمتهم في تلك اللحظة لا يواجه مجرد قطعة معدنية ملتهبة بل يقف امام مجتمع كامل يراقبه ويحاكمه مسبقا ويترقب سقوطه أو نجاته، ويكون الضغط النفسي في كثير من الاحيان أعنف من الالم الجسدي نفسه، وقد يدفع البعض الى الاعتراف تحت وطاة الرعب، حتى لو كان بريئا فيتحول الاختبار من اداة زعموا انها تكشف الحقيقة إلى وسيلة قهر وانكسار.
يؤمن انصار هذه الممارسة بمقولة شائعة مفادها، أن الحق لا تحرقه النار، وهي فكرة نسجت عبر اجيال من الحكايات والتجارب الفردية التي جرى تعميمها وتضخيمها، حتى تحولت إلى نوع من اليقين الشعبي الذي لا يناقش غير أن هذا الاعتقاد لا يستند إلى أي أساس علمي او منطقي فالتفاعل بين النار والجسد تحكمه قوانين فيزيائية لا تفرق بين صادق وكاذب، بل تحدده طبيعة الجلد والرطوبة وسرعة اللمس وقوة الاحتمال.
تطرح البشعة اشكالية خطيرة تتعلق بفكرة العدالة الموازية حيث يقصى القانون الرسمي ويستبعد القضاء، وتسحب هيبة الدولة لصالح سلطة عرفية تقوم على الخوف لا على الضمانات، وفي مثل هذه المجالس تغيب ابسط معايير المحاكمة العادلة، فلا محام ولا تحقيق ولا قرائن مضبوطة بل حكم يبنى على طقس قاس لا يملك اي قدرة حقيقية على التمييز بين المذنب والبريء، ويزداد الامر تعقيدا حين يكون الخضوع للبشعة في حالات كثيرة غير قائم على ارادة حرة، بل على ضغط وسطوة العائلة والخوف من وصمة الاتهام التي قد تلاحق الرافض حتى لو كان واثقا من براءته.
البشعة
ومن زاوية دينية تمثل البشعة نموذجا صارخا لتصادم بعض الأعراف، مع مقاصد الشريعة التي اقامت العدل على البينة والشهادة والاقرار لا على ايذاء الجسد وتعريض النفس للهلاك، وقد اجمع علماء العصر على تحريم هذا الفعل، لما فيه من تعذيب بغير حق واعتماد على معتقدات خرافية وامكانية جسيمة لاهداء حقوق الأبرياء، فالعدالة في جوهرها لا تبنى على الالم ولا تستخرج من النار بل تقوم على قواعد منضبطة تحمي الانسان قبل ان تدينه.
ورغم هذا التحريم الديني الواضح والتجريم القانوني الصريح والتقدم الكبير الذي شهدته المجتمعات، لا تزال البشعة تظهر بين الحين والاخر في بعض المناطق، مدفوعة بجملة من العوامل المتشابكة من بينها ضعف الوعي القانوني، وبطء بعض اجراءات التقاضي وتغلغل العصبية القبلية والخوف من طول امد النزاعات، واحيانا فقدان الثقة في مؤسسات العدالة وفي هذا السياق تقدم البشعة باعتبارها حلا سريعا ينهي الخلاف في ساعات، بدلا من أن يمتد لشهور وسنوات داخل اروقة المحاكم لكنها في الحقيقة لا تحل الازمة بقدر ما تدفنها تحت رماد الخوف.
تفكيك ثقافة البشعة لا يمكن أن تتم فقط عبر المنع او القمع بل يحتاج الى مسار اعمق يقوم على نشر الوعي الديني الصحيح، وترسيخ ثقافة القانون وتسريع وتيرة العدالة، واحتواء المجالس العرفية داخل اطار الدولة، بدل تركها تعمل خارجها مع توفير حماية حقيقية للافراد من ضغوط الجماعة واستبداد العرف، فالمجتمع الذي يحترم كرامة الانسان، لا يمكن ان يقبل طقسا تختبر فيه الحقيقة، عبر حرق اللسان ولا يمكن ان يعتبر الالم بديلا عن الدليل.
وفي النهاية تظل البشعة مرآة لصراع طويل، بين الاسطورة والعقل وبين العرف والقانون، وبين عدالة الخوف وعدالة المؤسسات، وكلما تقدمت المجتمعات خطوة نحو الدولة الحديثة، بقي السؤال الاخلاقي والانساني مطروحا بإلحاح، هل آن الاوان لوداع النار بوصفها حكما، والاحتكام الكامل الى عدالة لا تحرق الاجساد ولا تخضع الحقيقة للاختبار بالنار، بل تقوم على الانصاف وحماية الانسان.








