
لم أكن شيئًا يُذكر، فقط رجل أرهقته الدنيا، وطوته الأيام بين الندم والحنين، كنت أمشي بثقل خطاياي، أستتر خلف ابتسامات لا تشبه قلبي، أطلب ستر الله في كل سجدة، وأبكي بصمت في جوف الليل: " "خذ بيدي إليك، أنا ذلك الذي جلس على طرف الحياة متأسفًا على ما فات، مكسورًا مما كان، لا يملك إلا دمعة على الخد ويقينًا في القلب، المستور في الناس، المفضوح بينه وبين نفسة، حتى جاء رمضان، وجاء بعده ذلك الإحساس، لا يشبه شيئًا إلا نداءً من فوق سبع سموات:"تعال… لقد آن أوان الرجوع."
لا أدري متى بدأ ذلك النداء الخفي يتردد في داخلي، لكنه جاء بعد رمضان عام 2022، صوتا خافتًا أول الأمر، ثم راح يكبر يومًا بعد يوم، حتى صار نداءً يملأ صدري، لا يشبه شيئًا عرفته من قبل، كنت أشعر بيقين عجيب أنني سأحج هذا العام، يقين لا يستند إلى تأشيرة، ولا دعوة، ولا واسطة، لا شيء… فقط قلب متعب، وروح مكسورة، وشفاه تلهج: "يا رب، اكتب لي الحج."
قلت للجميع: "سأحج هذا العام،قالوا: كيف؟ فقلت: "الله يعلم " ، ثم تقدمت بطلب في نقابة الصحفيين، وجلست أنتظر، وكلي رجاء أن تحمل القرعة اسمي، لكن النتيجة جاءت صادمة، اسمي ليس بينهم، لحظة صمت، شعرت فيها أن الجدران أغلقت أبوابها، وأن حلمي سقط، لكن شيئًا بداخلي لم ينكسر، لم أصدق أن الله يُطفئ نورًا أشعله في صدري ثم، جاء الفرج من حيث لا أحتسب وبسبب هين وبرسالة مصغرة تركتها لسفير خادم الحرمين الشريفين، قبل الحج بأربعة أيام فقط، لآفاجئ باتصال هاتفي من مكتب السفير السعودي في القاهرة: " تم السماح بالتأشيرة، سقطت دمعة، ثم تلتها سجدة، شعرت أن السماء لم تغفل يقيني، بل كانت تختبره، ولما رأت صدقي... منحتني أعظم هدية.
جئتك في بياض الثوب يا مولاي، لا أملك زادًا إلا الدموع، ولا متاعًا إلا قلبًا أكلته الحسرة، وروحًا تائهة تبحث عن مأوى، جئتك مُحمَّلًا بذنوب لا يعلمها سواك، بخيبات كتبتها الأيام على جبيني، وبأمنية واحدة ظللت أتمتم بها في السحر: "خذ بيدي إلى بيتك... لا تُبعدني أكثر، أنا المستور في أعين الناس، المتأسف في وحدتي، المكسور بيني وبينك ويشاء القدر أن اليوم الذي وُلدت فيه، ركبت طائرة الميلاد من جديد، ذهبت إلى مكة، لا كسائح، بل كعبد عاد معتذرًا، كطفل ضلّ الطريق فعاد إلى صدر أمه، جسدي كان في الطائرة، لكن قلبي سبقني إلى هناك... إلى حيث العفو، والمغفرة، والحنان الإلهي.
لبيك اللهم لبيك
وفجأة، وفي قلب الطائرة، ارتفع صوت أحدهم بالتلبية : "لبيك اللهم لبيك..." فارتجفت روحي، رأيته، لم أكن أعرفه، لكن دموعه سبقت اسمه إلى قلبي، كان الدكتور إبراهيم مجدي استشاري الطب النفسي الكبير، الذي أصبح بعدها أخًا وسندًا في مخيمات منى، بكينا معًا، دعونا معًا، وتقاسمنا الخبز والسكينة كأننا نعرف بعضنا منذ الأزل وكان معنا رجل فاضل، ماجد مندور، أمسك بيدي، وعلّمني المناسك كما يعلّم الأب ابنه الصلاة، لم يدعني للحظة، ولم يتركني للرهبة، ليعينني على الطواف، وعلى البكاء، وعلى الطهر.
ثم كانت اللحظة التي لن أنساها ما حييت، رأيت الكعبة لأول مرة ، لم أرَها فقط... بل انكشفت روحي أمامها، سكت الزمان، وسقطت الكلمات من لساني، شعرت أنني بين يدي الله، وجهًا لوجه، بكيت كما لم أبكِ من قبل، وتمنيت أن لا أغادر هذا الحضن أبدًا في مكة، لم أكن غريبًا، بل ابنًا عاد بعد طول غياب، وجدت الأمان، والعدل، والرحمة، وجدت المملكة العربية السعودية ترعى ضيوف الرحمن كأنهم ملوك، كأنهم رسل الله في الأرض، لم أجد وطنًا فحسب، بل حضارة تُجسّد الإسلام في أدق تفاصيله، نظام لا يختل، طب لا يخذل، أمن لا يُقلق، وقلوب تخدمك بمحبة كأنها تعرفك.
عدت... لكني عدت آخر، قلبي ليس قلبي، ودُنياي ليست كما كانت، ذنوب ذابت، وروح غُسلت، وعين بكت حتى تطهّرت، في عرفات، شعرت أن الله يسمعني، في مزدلفة، أحسست أن الدنيا اختصرت في سجدة، وفي طواف الوداع... كنت أودع كل ما يؤذيني.
فيا بلاد الحرمين، يا أرض الطهر، يا حضن العائدين... شكرًا، شكرًا للقيادة السعودية، شكرًا لكل جندي، وكل طبيب، وكل متطوع، وكل من ابتسم في وجهي دون أن يعرفني.شكرًا لأنكم لم تجعلوا من الحج رحلة فقط... بل جعلتموه معجزة حيّة، لمن ظن أن الأبواب أُغلقت، فجاءته المفاتيح من السماء.
رسالتي الأخيرة: "لاتيأس إن الله معك"