و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

مازلنا نتوقف كثيراً بالتحليل للعرض العسكري الصيني يوم الثالث من سبتمبر الجاري احتفالاً بمرور ثمانين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية والتحرر من الغزو الياباني ، والذي تناولناه بالتحليل في مقال سابق وفي هذا المقال نتوقف عند محطتين الاولى مغزى الحضور الكوري الشمالي والروسي والثانية مغزى غياب الزعماء العرب عن الحضور 
ان حضور زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين للعرض العسكري الصيني يحمل رمزية سياسية وجيوسياسية عميقة. هذا الحضور ليس مجرد إجراء بروتوكولي، بل يعكس رسائل استراتيجية موجهة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة، ويعزز صورة التحالف المناهض للهيمنة الغربية ، فهو من ناحية يشكل رمزية تشكيل محور دولي مضاد للغرب وللهيمنة الأمريكية ، فان هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها شي جين بينغ وبوتين وكيم جونغ أون معًا في حدث علني كبير ، حتى ان هناك الكثير من  وسائل الإعلام الغربية ، مثل “نيويورك تايمز” و”الغارديان”، أطلقت على هذا التجمع مصطلح "محور الاضطراب" ، لان هذا التجمع يعد رمزية إلى وحدة الدول التي تتحدى العقوبات الغربية وتسعى لإعادة تشكيل النظام العالمي بشكل أكثر إنصافاً وحيادية ، ومن ناحية أخرى فأن هذا التجمع يعتبر رسالة لأمريكا والغرب  أن الصين ليست وحدها بل لديها حلفاء استراتيجيون يدعمون رؤيتها لمواجهة “التنمر” الأمريكي كما وصفه شي جين بينغ في خطابه ، وهذا يعزز فكرة أن الصين تقود تحالفًا بديلًا للناتو، خاصة في ظل التوترات المستمرة في أوكرانيا، تايوان، وبحر الصين الجنوبي
اما عن كوريا الشمالية فأن حضور زعيمها كيم جون اون الذي نادرًا ما يغادر بلاده، يعكس دعم الصين لكوريا الشمالية كشريك استراتيجي ، ويمنح كوريا الشمالية شرعية على الساحة الدولية رغم عزلتها بسبب العقوبات الغربية كما أن مشاركة جنود كوريين في العرض تؤكد هذا الدعم وتظهر كيم كجزء من نادٍ عالمي وليس كزعيم معزول ، والأمر نفسه بالنسبة لروسيا فإن حضور بوتين الذي يواجه عقوبات غربية بسبب الحرب في أوكرانيا وظهوره في بكين يظهر أن روسيا ليست معزولة دوليًا بل لديها حليف قوي مثل الصين ، وذلك يعزز موقف بوتين داخليًا وخارجيًا، ويظهر أن روسيا لديها بدائل اقتصادية وعسكرية بعيدًا عن الغرب.
الحضور الكوري الشمالي والروسي لم يحمل فقط رسائل رمزية للغرب ولكن جاء حضوراً عسكرياً في المقام الاول فإن مشاركة قوات من روسيا وكوريا الشمالية في العرض إلى جانب عرض أسلحة متقدمة يشير إلى تعاون عسكري متزايد وهناك تقارير من “بلومبرغ” تؤكد أن الصين وروسيا تعملان على تطوير أنظمة أسلحة مشتركة، بينما كوريا الشمالية تزود روسيا بالذخائر لاستخدامها في أوكرانيا ، وهذا يظهر تحالفًا عسكريًا يهدد مصالح الغرب.

 

 

روية لنظام اقتصادي 


كل هذا واذا وضعنا في الاعتبار ان الصين هي الشريك التجاري الأكبر لكل من كوريا الشمالية وروسيا  الامر الذي  يساعدهما على تحمل العقوبات الغربية ، فأن هذا يعكس رؤية شي لنظام اقتصادي عالمي بديل بعيدًا عن الدولار الأمريكي والمؤسسات الغربية.
كل ما سبق دفع محللون مثل أنكيت باندا من معهد كارنيغي بالقول بأنه “إعلان عن نظام عالمي جديد” تقوده الصين وتدعمه دول مثل روسيا وكوريا الشمالية
ونأتي هنا لتحليل مغزى عدم حضور أي قائد عربي، بما في ذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، للعرض العسكري الصيني والذي بلا شك يحمل مغزى سياسيًا ودبلوماسيًا يمكن تحليله من عدة زوايا ، مع التركيز على الرئيس السيسي تحديدًا وذلك بناءً على السياق الجيوسياسي
الدول العربية خاصة الدول الرئيسية مثل مصر والسعودية والإمارات تميل إلى الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها مع القوى العالمية (الصين وروسيا والولايات المتحدة) وسيمثل حضور قادة عرب للعرض الذي حضره قادة مثل فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون انحيازاً إلى “محور الصين-روسيا” ضد الغرب ، وهذا من شأنه أن يُعرض العلاقات مع الولايات المتحدة وحلفائها للخطر، خاصة أن العرض تم تصويره في وسائل الإعلام الغربية كتحدٍ مباشر للهيمنة الأمريكية
ثم ان العرض العسكري كان حدثًا يعكس انقسامًا عالميًا بين معسكر الغرب ومعسكر الدول المناهضة للهيمنة الغربية ، والدول العربية التي تعتمد على الولايات المتحدة في الدعم العسكري والاقتصادي (مثل مصر والسعودية) أو حتى تلك التي لها علاقات اقتصادية وثيقة مع الصين (مثل الإمارات) تجنبت الحضور لتفادي إرسال إشارة خاطئة قد تُفسر كعداء للغرب ، وهناك تقارير من “رويترز” و”الغارديان” أشارت إلى أن غياب قادة الدول الحليفة للغرب بما في ذلك العرب كان متوقعًا بسبب الطبيعة السياسية المشحونة للحدث.
كما ان العديد من الدول العربية منشغلة بقضايا إقليمية ملحة (مثل الحرب في غزة، التوترات في البحر الأحمر، والأزمات الاقتصادية) ، ولا ننسى ان اليابان حليفة الولايات المتحدة دعت الدول إلى عدم حضور العرض وفقًا لتقارير من “بلومبرغ” ، فإن هذا الضغط الدبلوماسي قد يكون من العوامل التي أثرت على قرار الدول العربية بعدم الحضور خاصة أن بعض الدول العربية (مثل مصر) لديها علاقات اقتصادية وعسكرية مع اليابان.
اما عن عدم حضور الرئيس السيسي تحديداً فأن مصر تحت قيادة السيسي تعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي ، حيث تحصل على مساعدات عسكرية سنوية بقيمة حوالي 1.3 مليار دولار ، وحضور السيسي للعرض كان سيُفسر كإشارة سياسية قوية ضد الولايات المتحدة، خاصة في ظل حضور قادة مثل بوتين وكيم جونغ أون الذين يُنظر إليهم كخصوم للغرب. هذا كان من شأنه أن يعرض مصر لضغوط دبلوماسية أو حتى عقوبات اقتصادية وهو أمر لا تستطيع مصر تحمله في ظل أزمتها الاقتصادية الحالية من ناحية ومن ناحية اخرى الأزمة الدولية والتي خلفها عدوان الكيان على غزة ، ورغم ان مصر لديها علاقات اقتصادية قوية مع الصين التي تستثمر بكثافة في مشاريع مثل العاصمة الإدارية الجديدة وقناة السويس فإن هذه العلاقات اقتصادية وليست سياسية بالدرجة الأولى ، والرئيس السيسي الذي يركز على استقرار النظام داخليًا يتجنب اتخاذ مواقف سياسية قد تُغضب الولايات المتحدة ، فان غيابه يعكس سياسة الحياد التي تتبعها مصر في الصراعات بين القوى العظمى.
ثم ان السيسي نادرًا ما يحضر مثل هذه المناسبات الدولية بنفسه مفضلاً إرسال ممثلين من الحكومة (مثل رئيس الوزراء أو وزير الخارجية). عدم حضوره قد يكون أيضًا انعكاسًا لأولوياته الداخلية، مثل إدارة الأزمة الاقتصادية وتعزيز صورته كزعيم محلي ، وأخيراً لو حضر السيسي لكان قد عرض علاقات مصر مع الولايات المتحدة للخطر خاصة في وقت تحتاج فيه مصر إلى دعم صندوق النقد الدولي الذي تتوسط فيه الولايات المتحدة. كما أن مصر تسعى للحفاظ على دورها كوسيط في القضايا الإقليمية وهو دور يتطلب حيادًا ظاهريًا ، والصين من الحكمة انها تتفهم الاعتبارات السياسية للدول الحليفة والصديقة.
بذلك نكون قد حللنا هذا العرض العسكري من اكثر من زاوية وهو وبحق يحتاج لذلك لانه يشكل علامة تاريخية وجيوسياسية فارقة في العلاقات الدولية في عصرنا الحديث

تم نسخ الرابط