
يحمل العرض العسكري الصيني الذي أقيم في بكين يوم 3 سبتمبر 2025، بمناسبة الذكرى الـ80 لانتهاء الحرب العالمية الثانية (التي تُعرف في الصين بـ”حرب المقاومة ضد الغزو الياباني”)، رسائل واضحة ومباشرة موجهة إلى الغرب بشكل عام، وخاصة الولايات المتحدة. هذا العرض لم يكن مجرد احتفال تاريخي أو عرض للقوة الداخلية، بل كان حدثًا مدروسًا جيوسياسيًا يهدف إلى إرسال إشارات تحذيرية وتحديًا للنظام العالمي الحالي الذي يقوده الغرب. سأشرح ذلك خطوة بخطوة بناءً على التحليلات والتقارير المتاحة، مع الاستناد إلى مصادر متعددة تمثل وجهات نظر غربية وصينية ودولية لضمان التوازن.
آولاً: السياق السياسي والتاريخي
العرض العسكري، الذي شارك فيه أكثر من 12,000 جندي من الجيش الشعبي للتحرير (PLA)، وشمل أكثر من 100 طائرة ومئات المركبات البرية، كان الأكبر في تاريخ الصين منذ عام 2015. ركز على عرض أسلحة متقدمة جديدة، مثل الصواريخ الباليستية بعيدة المدى (مثل CJ-20A)، الطائرات بدون طيار تحت الماء (AJX002)، أسلحة الليزر، والصواريخ الفرط صوتية المضادة للسفن، بالإضافة إلى كلاب روبوتية وطائرات مقاتلة من الجيل الخامس (مثل J-20).
• حضر العرض قادة من 26 دولة، معظمها غير غربية، وكان الأبرز فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقائد كوريا الشمالية كيم جونغ أون، ورئيس إيران مسعود بزشكيان، وغيرهم من الدول المعرضة للعقوبات الغربية. هذا الاجتماع الأول للثلاثة قادة معًا في العلن يُعتبر “محور الاضطراب” (Axis of Upheaval) كما وصفته وسائل إعلام غربية، وهو يعكس تحالفًا ضد النظام الغربي.
في حين غاب قادة الغرب تمامًا (مثل الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، اليابان، الهند، وكوريا الجنوبية)، مما يبرز الانقسام العالمي. رد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسخرية على منصة Truth Social قائلًا: “أرجو أن تقولوا تحياتي الحارة لفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون بينما تتآمرون ضد الولايات المتحدة”، مما يؤكد أن الرسالة وصلت.
ثانياً: التحدي للهيمنة الغربية
التحدي للهيمنة الغربية والأمريكية والنظام العالمي على وجه الخصوص فإن الرئيس شي جين بينغ في خطابه أكد أن العالم يواجه “خيارًا بين السلام والحرب، والحوار أو المواجهة”، ووصف الصين بأنها “أمة عظيمة لا تخاف التنمر”، في إشارة مباشرة إلى الولايات المتحدة وحلفائها. هذا يعكس رؤية شي لـ”نظام عالمي جديد” يقوده الصين، يركز على الاستقرار والأمن الوطني والتنمية الاقتصادية، مقابل “الهيمنة والسياسات القوية” الأمريكية. التحالف مع بوتين وكيم يُظهر أن الصين تبني محورًا بديلًا للناتو، خاصة في ظل الحرب في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط.
ثالثاً: إظهار القوة العسكرية:
العرض لم يكن عرضًا تقليديًا، بل “عرضًا للأنظمة” (systems demonstration) يبرز تكامل الجيش الصيني في البر، البحر، الجو، الفضاء، والحرب الإلكترونية. الأسلحة المعروضة مصممة خصيصًا لمواجهة الولايات المتحدة، مثل الصواريخ المضادة للسفن التي تهدد الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ، والطائرات بدون طيار المتقدمة التي تفوق ما هو متاح في الغرب حاليًا. خبراء مثل مالكوم ديفيس من معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي يقولون إن هذا “يجعل من الصعب على الولايات المتحدة وحلفائها إسقاط القوة في غرب المحيط الهادئ في حال أزمة”. كما أن الصين كشفت عن صواريخ نووية بعيدة المدى، مع كتابة التصنيف الأمريكي عليها، في إشارة مباشرة إلى الردع النووي.
رابعاً: رسالة الي تايوان وحلفائها:
جزء كبير من الأسلحة موجه نحو تايوان، مثل الصواريخ الفرط صوتية التي يمكنها منع التدخل الأمريكي في حال أرادت الصين غزو تايوان لإعادة ضمها للوطن الام
شي أكد على “إحياء الأمة الصينية”، وهو مصطلح يشير إلى ضم تايوان. رئيس تايوان لاي تشينغ-ته رد بأن “الوحدة تضمن النصر، بينما العدوان يفشل”، مما يعكس التوتر. هذا يهدف إلى إخافة تايوان وحلفائها (مثل اليابان وأستراليا) من أي دعم أمريكي.
خامساً:التأكيد على الاستقلال والتفوق التكنولوجي:
الصين أبرزت أن معظم الأسلحة مصنعة محليًا، بعيدًا عن الاعتماد على روسيا أو الغرب، مما يعكس خطة شي للاستقلال العسكري. محللون مثل أنكيت باندا من معهد كارنيغي يصفونها بـ”حرب ذكية” (intelligent warfare)، حيث تفوق الصين في الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار، بينما يعاني الجيش الأمريكي من مشاكل في الإنتاج والفساد.
ومما لا شك فيه ان كل هذه الرسائل موجهة للغرب ولامريكا على وجه الخصوص ، ويؤكد ذلك الغياب المتعمد للغرب ، فعدم دعوة قادة غربيين ، ورفض الولايات المتحدة واليابان والأوروبيين الحضور، يبرز الانقسام ، لدرجة ان اليابان طلبت من الدول عدم الحضور ، مما دفع الصين إلى الاحتجاج رسميًا.
وبالنظر الي التغطية الإعلامية الغربية وتحليلاتها فإن تقارير من نيويورك تايمز، الغارديان، رويترز، وسي إن إن تؤكد أن العرض “رسالة تحدي للغرب”، و”تحذير من صعود الصين غير القابل للإيقاف”. حتى في الصين، الإعلام الرسمي يركز على “الدفاع عن السيادة ضد التنمر”.
كل ذلك بالتزامن مع الردود الدولية ، فترامب رد بسخرية، بينما محللون أمريكيون مثل جون سيزن من معهد بروكينغز يقولون إن العرض يظهر تقدمًا حقيقيًا يقلق الغرب”.
وداخليًا فان العرض يهدف إلى تعزيز القومية في ظل التحديات الاقتصادية، لكنه خارجيًا يستهدف الغرب كما أكدت تغطية بلومبرغ: “الصين تظهر من يدير اللعبة الآن”.
الرسائل ليست جديدة، لكنها أقوى الآن بسبب التوترات في بحر الصين الجنوبي، تايوان، وأوكرانيا. الصين ترى نفسها كبديل للنظام الأمريكي، خاصة مع سياسات ترامب المتقلبة.
ان العرض يحمل رسائل واضحة أن الصين قوية ، متحالفة مع “الأصدقاء”، وجاهزة للدفاع عن مصالحها، وهي تحذر الغرب من أي تحدٍّ. هذا ليس مجرد عرض، بل خطوة في “حرب الذاكرة” لإعادة تشكيل النظام العالمي، كما وصفتها دراسات مثل تلك من معهد بروكينغز.
وأخيراً فأن حضور زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين للعرض العسكري الصيني في بكين يوم 3 سبتمبر 2025 يحمل رمزية سياسية وجيوسياسية عميقة. هذا الحضور ليس مجرد إجراء بروتوكولي، بل يعكس رسائل استراتيجية موجهة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة، ويعزز صورة التحالف المناهض للهيمنة الغربية ، ولهذا الموضوع حديث آخر في مقال قادم ان شاءالله