من 400 لـ 45 الف جنيه
مزارعو الأوقاف والإصلاح الزراعي في مواجهة «تسونامي» الإيجارات الجديدة
لأكثر من نصف قرن، عاش آلاف المزارعين على الأراضي التابعة لهيئة الأوقاف المصرية وهيئة الإصلاح الزراعي بالدلتا والصعيد في حالة من الاستقرار النسبي. كانت قيمة الإيجار لا تتجاوز 400 جنيه للفدان، ورغم رمزيتها في بعض الأحيان، إلا أنها كانت تراعي البعد الاجتماعي الذى يتيح للفلاح الاستمرار في مهنته وتوفير قوت يومه وأسرته.
لكن مع بداية العقد الأخير، وتحديداً منذ عام 2021، شهدت قيمة إيجار الأراضي الزراعية زيادات غير مسبوقة، تحولت إلى كابوس يطارد الفلاحين ويهدد بتركهم للأرض التي ورثوا زراعتها أبا عن جد.
حتى وقت قريب، كانت الإيجارات تقدر بمئات الجنيهات للفدان الواحد سنوياً. في بعض المناطق، لم يتجاوز الإيجار 400 إلى 500 جنيه للفدان حتى وقت قريب. كانت هذه الأسعار تعكس سياسة اجتماعية تراعي البعد المعيشي للفلاح وتضمن استمرار العملية الزراعية. كانت العلاقة بين الهيئات الحكومية والمزارع تحكمها اعتبارات الاستقرار أكثر من الربح المادي الصرف.
بدأت التحولات الكبرى مع التوجه الحكومي نحو تعظيم العائد من الأصول المملوكة للدولة، حيث بدأ إيجار الفدان في الارتفاع تدريجياً، ثم تسارع بشكل جنوني في السنوات الثلاث الأخيرة.
وبداية من عام 2018، رفعت وزارة الأوقاف متوسط الإيجارات من 500 جنيه للفدان إلى 4800 جنيه، قبل أن يعلن وزير الأوقاف السابق، خلال جلسة برلمانية في 2019، أن القيم الإيجارية ستُحدَّد وفقًا لأسعار السوق. وبعد ذلك، أخذت الإيجارات في الارتفاع سنويًا، من 4800 إلى 6000 جنيه، ثم إلى 7200 جنيه، ثم إلى 9600 جنيه.
وجاءت الزيادات الأخيرة نهاية عام 2024 وخلال عام 2025 بمضاعفة القيم الإيجارية بشكل كبير، لتصل إلى مستويات تتراوح بين 30 و 45 ألف جنيه للفدان سنوياً في بعض المناطق، وقد تصل إلى 55 ألف جنيه في مناطق أخرى يصنفها الأوقاف كأراضي مميزة.
وعلى نهج الأوقاف سلكت هيئة الإصلاح الزراعي مسارًا مشابهًا من التحرير التدريجي، أعقبته قفزات متتالية في القيم الإيجارية، عقب صدور حكم من مجلس الدولة في 2021 مهّد الطريق لاعتماد التسعير السوقي للأراضي الزراعية المملوكة للدولة.
صراع لقمة العيش
وبررت هيئة الأوقاف وهيئة الإصلاح الزراعي هذه الزيادات بأنها تأتي لتقترب من القيمة السوقية الحرة للأراضي، معتبرة أن القيم الإيجارية القديمة كانت إهداراً للمال العام والوقف، مشيرة إلى أن الزيادات المتفاوتة بين المحافظات وبعضها البعض جاءت بعد تقسيم الأراضي إلى أربع فئات، بناء على المساحة وجودة التربة وأماكنها وقربها من الخدمات.
وبحسب البيانات الرسمية، تدير هيئة الأوقاف رصيدًا ضخمًا من الأصول يشمل نحو 265 ألف فدان أراضي زراعية مؤجرة لمزارعين في مختلف أنحاء الجمهورية، أما هيئة الإصلاح الزراعي، فتدير نحو 800 ألف فدان تؤجرها للمزارعين، وهي أراضٍ كانت في الأصل تحت يد كبار الملاك الذين صودرت منهم ضمن سياسات الإصلاح الزراعي التي أطلقها الزعيم جمال عبد الناصر مع بدايات ثورة 23 يوليو 1952.
وأدت هذه الزيادات الصاروخية إلى سلسلة من المشاكل والأزمات التي تهدد القطاع الزراعي والفلاحين وبخاصة لصغار المزارعين الذين لا يمتلكون مصادر دخل أخرى، حيث أصبحت فاتورة الإيجار الجديدة تفوق قدرتهم، وأصبحوا أمام خيارين؛ إما التخلي عن الأرض أو العمل بالخسارة بالتزامن مع ارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج الزراعي «الأسمدة، المبيدات، البذور» وغيرها من المستلزمات.
ومع تفاقم الأزمة، وانتشار حالة من الاستياء بين المزارعين، أعلنت لجنة الزراعة بمجلس الشيوخ عن إرسال مذكرة إلى الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف، بشأن شكاوى الفلاحين من الزيادات الأخيرة.
وشددت على أن أزمة إيجارات الأراضي الزراعية في مصر تتطلب تدخلاً متوازناً يجمع بين هدف الدولة في تعظيم الاستفادة من أصولها، وبين الحفاظ على الطبقة الأساسية التي تعول عليها مصر في زراعة أرضها، من خلال الحلول الوسطية التي تضمن هامش ربح عادل للفلاح لتجنب كارثة اجتماعية وزراعية تلوح في الأفق.








