لم يكن حديث السيد الرئيس قبل أيام مجرّد رسالة تهدئة، بل كان إنذارًا مبكرًا بأن الدولة ترى ما يراه الناس، وتراقب ما رآه كل من وقف أمام لجنة انتخابية في المرحلة الأولى.
تخيّل البعض أن التحذير سيضع سقفًا للانفلات، وأن أصحاب المال سيتراجعون خطوة احترامًا للدولة والشعب والعملية الانتخابية. لكن ما حدث اليوم كان صادمًا… كأن الخطاب لم يُسمع، أو كأن الطمع حين يشتدّ يخنق صوت العقل نفسه.
في المرحلة الأولى رأينا تجاوزات، نعم…
لكن ما جرى اليوم تعدّى التجاوز إلى «فوضى منظمة» تشترك فيها الأموال، والبلطجة، والضمائر المستأجرة.
لم يعد شراء الأصوات سرًا، بل صار «مزادًا علنيًا» على أبواب اللجان، فيه كوبونات، وفلوس، ووعود، وتهديدات…
صار المشهد — سيادة الرئيس— أقرب إلى تجارة موسمية منه إلى استحقاق دستوري يُبنى عليه مجلس تشريع.
واليوم فقط فهمنا قانون اللعبة الحقيقي:
حين يشمّ أصحاب الثروة رائحة الحظر… يزدادون شراسة.
وحين يشعرون أن الدولة بدأت تراقب… يركضون إلى آخر حدود الانفلات.
وهكذا رأينا ما لم نره في المرحلة الأولى:
اعتداءات على محامين ومرشحين، احتجاز داخل اللجان، منع مراقبين، توجيه فجّ للناخبين، بل وتهديدات صريحة لمن يرفض بيع صوته.
هذا ليس ردّ فعل… هذا هوس انتخابي يخلع آخر ورقة تستر العملية.
أما الهيئة الوطنية للانتخابات — وهي المفترض أنها الحارس الأخير للشرعية — فقد ظهر ضعفها اليوم واضحًا؛
أداء مرتعش، قرارات متأخرة، بيانات لا تجيب عن الأسئلة، وصمت طويل أمام وقائع موثّقة بالصور والفيديوهات والشهود.
وهنا يصبح السؤال منطقيًا:
هل يمكن لمن عجز عن السيطرة على دائرة أن يحمي نزاهة دولة؟
المفارقة الكبرى
إلغاء بعض الدوائر — كما حدث في المرحلة الأولى — لا يعالج أصل الأزمة، بل يزيدها التباسًا.
فمرشحى الفردي والقائمة يقفون اليوم في مركز قانوني واحد داخل العملية ذاتها.
فإذا أبطلت الدولة انتخابات الفردي بسبب العوار، فكيف تُجاز القائمة في الظروف نفسها، وبالإجراءات نفسها، وتحت الإشراف نفسه؟
إن الإلغاء الجزئي هنا لا يصبح علاجًا… بل مادة جديدة للطعن وشرخًا في مبدأ المساواة بين المترشحين.
والحقيقة التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها هي الآتي:
ما حدث اليوم لا يمكن إصلاحه بترقيع جزئي، ولا بردّ فعل محدود…
فالفرع تالف لأن الأصل أصيب.
ولهذا فإن أي محاولة لإلغاء بعض الدوائر للمرة الثانية ستكون عبثية ما لم يُتخذ القرار الأوسع والأشجع:
إعادة الاستحقاق كاملًا… بضوابط جديدة، وهيئة أقوى، وبيئة انتخابية تليق بدولة قانون.
فالانتخابات ليست «جولة»، بل ثقة عامة؛
إذا فقدت في دائرة واحدة… ارتبك البرلمان كله.
وتظل الحقيقة الأهم:
الشعب الذي رأى اليوم بأمّ عينه هذه المهازل لن يقبل أن يُقال له «هذا هو اختيارك».
لا… هذا ليس اختياره.
هذا اختيار المال، والسطوة، والانفلات.
أما اختيار الشعب… فلم تتوافر له بيئة آمنة بعد.




