توقفت الحرب جزئيًا في غزة، وانسحب الجيش الإسرائيلي من معظم المناطق الساخنة، وعاد المحتجزين الإسرائيليين إلى ذويهم —عدا جثمان الرقيب ران غوئيلي الذي لا يزال البحث جارياً عنه بين ركام مدينة غزة التي تركها الجيش الإسرائيلي. تبدو كل الأسباب جاهزة لكي تعود الحياة إلى طبيعتها، وأن تهدأ الشوارع، أليس كذلك؟ ومع ذلك، تظل المظاهرات مشتعلة في تلأبيب، القدس، حيفا وبقية المستعمرات الإسرائيلية.
هل كان السبب هو مجرد غضب مؤقت على الحرب، أو فشل في إدارة أزمة محددة؟ وإذا كان خطر الصواريخ قد تلاشى، فلماذا لا تزال الشوارع ممتلئة بالمتظاهرين؟ هل هذه المظاهرات مجرد تعبير عن أزمة أمنية أو غضب لحظي، أم أنها مرآة لحقيقة أعمق تقول إن المسألة أكبر بكثير من الأسرى والحرب، وأن ما يحدث في الشوارع ليس احتجاجًا على حدث، بل على مسار كيان الاحتلال الإسرائيلي، وعلى مستقبله، ويتحدى كل محاولات الحكومة لاحتوائها؟
2022: "إصلاح قضائي" يتحول إلى موجة احتجاج كاسحة شهدت إسرائيل مع نهاية 2022 ما يُعتبر أحد أوسع حركات الاحتجاج الداخلي في تاريخها الحديث، بعدما أعلنت الحكومة التي يقودها بنيامين نتنياهو عن سلسلة من التعديلات القضائية المثيرة للجدل، تهدف إلى تقييد صلاحيات القضاء، خصوصًا القضاء الأعلى، وتقليص قدرة المحكمة على مراجعة قرارات الحكومة عبر ما يُعرف بـ"المعقولية".
ردّ الفعل الشعبي كان سريعًا وضخمًا: عشرات آلاف، ثم مئات آلاف — خرجوا في مدن مثل تلأبيب، القدس، حيفا، بئر السبع وغيرها. المسيرات، الاعتصامات، إغلاق الطرق، وصولًا إلى منع بعض نواب اليمين من الوصول للكنيست حتى قطاعات مهنية دخلت على الخط: أعلنت الرابطة الطبية الإسرائيلية إضرابًا احتجاجًا على التعديلات، معتبرة أن المساس باستقلال القضاء قد يهدد حكم القانون ويُضعف الضمانات على الحقوق والحريات ورغم أن حكومة نتنياهو أعلنت في مرحلة معيّنة "تجميد مؤقت" لمسار الإصلاح تحت ضغط الشارع، استمرت المظاهرات، وظلّت المطالب قائمة حتى إلغاء المشروع أو تغييره جذريًّا.
استمرت المظاهرات الرافضة للتعديلات القضائية 7 أشهر، وخرجت أيضاً مظاهرات مؤيدة للتعديلات القضائية ومؤيدة لبنيامين نتنياهو بشخصه، في مشهد أكد على وجود انقسام حاد في المجتمع الاسرائيلي لم تكن احتجاجات 2022–2023 رفضًا لقانون فقط، بل كانت دفاعًا عن الديمقراطية في كيان الاحتلال، والمتمثلة في التوازن بين السلطات، وعما أطلق عليه الجمهور الإسرائيلي «دولة عادلة لا خاضعة للسلطة المطلقة».
بعد 7 أكتوبر 2023: الحرب على غزة، الأسرى، وغضب داخلي عندما اندلعت أحداث طوفان الأقصى في الـ 7 من أكتوبر 2023، وتحوّلت المسألة إلى قضية أسرى إسرائيليين محتجزين لدى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، عاد الشارع الإسرائيلي لينفجر غضبًا، ليس فقط على الحرب نفسها، بل على ما اعتبره فشلًا حكوميًا في حماية جمهور الاحتلال الإسرائيلي وإدارة الأزمة.
تحوّلت المظاهرات إلى احتجاج مزدوج: ضد الحرب، وضد سياسات الحكومة التي تراها مسؤولة عما جرى.
تجمع المتظاهرون مطالب بإطلاق سراح المحتجزين لدي المقاومة بأي شكل وبأي ثمن مع الحفاظ على حياتهم، وطالب بعضهم بوقف العمليات العسكرية، واتفق جميع المتظاهرين على أن تتحمّل الحكومة مسؤولية قراراتها هذا الإخفاق الأكبر في تاريخ الكيان منذ حرب أكتوبر 1973.
لم تقتصر المظاهرات على الأيام الأولى للصراع أو لحظة غضب مؤقت، بل انخرطت في دورات زمنية: احتجاجات بعد كل قرار تشريعي يراه كثيرون تهديدًا للديمقراطية، أو بعد كل تفجير أو غارة أو إهمال يُنسب للحكومة، مما جعل المظاهرات تعكس غصة عميقة في وعي الكثير من الإسرائيليين.
جدير بالذكر أن المظاهرات لم تتوقف خلال الهدنة الأولي ووقف إطلاق النار في نوفمبر 2023، ولا خلال الهدنة الثانية ووقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين في يناير 2025 أيضاً، بل استمرت بمطالب مختلفة على رأسها الإبقاء على وقف إطلاق النار حتى عودة جميع المحتجزين الإسرائيليين وفي ذيل المطالب أتى التحقيق مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والذي أبدع وتفنن في إلقاء الفشل الأمني على القادة العسكريين والمسؤولين الأمنيين وكأنه «من بنها» ولم يحمل نفسه مثقال ذرة من المسؤولية أو اللوم.
استغلال المقاومة الفلسطينية المظاهرات كأداة ضغط
مع استمرار الحرب في قطاع غزة وطول أمدها، لم تكن المظاهرات الإسرائيلية مجرد احتجاج داخلي على السياسات الحكومية، بل تحولت إلى أداة ضغط غير مباشرة استخدمتها المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، لصالحها.
فعلى مدار كل أسبوع، خصوصًا أيام السبت، بدأت وسائل الإعلام التابعة للمقاومة وعبر المنصات المختلفة بعرض مقاطع فيديو للأسرى الإسرائيليين المحتجزين في الأنفاق، وهم يوجهون رسائل مؤثرة إلى ذويهم، يطلبون منهم عدم نسيانهم، ويطالبون نتنياهو ووزير الحرب بإيقاف إطلاق النار واللجوء إلى صفقة خاصة لإنقاذهم.
وفي بعض المقاطع، اعترف المحتجزون الإسرائيليون بأنهم تعرضوا لإصابات مباشرة وعنيفة نتيجة الغارات الجوية التي شنتها القوات الإسرائيلية، وأن المقاومة لم تتمكن من حمايتهم من التصرفات الوحشية للحكومة.
هذا الاستخدام الذكي للمظاهرات ومقاطع الفيديو المسجلة شكّل ورقة ضغط فعالة جدًا على الحكومة الإسرائيلية، إذ لم يكن الهدف بالضرورة تحقيق صفقة فورية، بل كشف انكشاف القيادة أمام الجمهور الإسرائيلي: أن نتنياهو لم يكن مهتمًا بحماية حياة أبنائهم أو الجمهور الإسرائيلي، بل باستمرار حكومته ورفاهية ابنه في الولايات المتحدة، وعناية زوجته بما يخص حياتها اليومية، وسط استفزاز مستمر للإسرائيليين.
بهذه الطريقة، استطاعت المقاومة الفلسطينية تحويل احتجاجات الشارع الإسرائيلي إلى عنصر سياسي واستراتيجي يُربك الحكومة، ويضغط على نتنياهو ليظهر أمام الرأي العام بمظهر المسؤول عن فشل حماية المحتجزين، دون أن تضطر المقاومة لخوض مواجهة مباشرة لتحقيق هذا التأثير.
مظاهرات الحريديم ورفض التجنيد: صدام الهوية والدولة لم تقتصر المظاهرات الإسرائيلية على احتجاجات المدنيين أو مناهضي الحكومة، بل شملت أيضًا المجتمع الحريدي اليهودي المتشدد، الذي يعتبر التجنيد في الجيش الإسرائيلي قضية حساسة للغاية.
منذ سنوات، يُعفى طلاب المدارس الدينية (اليشيفا) من الخدمة العسكرية، معتبَرين أن الدراسة الدينية أولوية على أي التزام مدني أو عسكري.
مع تفاقم الأزمة الأمنية ونقص العناصر البشرية في الجيش الإسرائيلي نتيجة الحرب والاحتياجات المتزايدة، بدأت الحكومة في الضغط لتجنيد عدد أكبر من الحريديم، مما أثار موجة احتجاجات واسعة داخل هذا المجتمع. تميزت هذه المظاهرات بعدة سمات:
- المشاركة الجماهيرية الكبيرة: خرج آلاف الحريديم في شوارع القدس، بني براك، وأحياء متفرقة في تلأبيب، مرددين شعارات رفض التجنيد وإعلاء مكانة الدراسة الدينية فوق أي التزام مدني.
- دعم الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة: قدمت أحزاب مثل "شاس" و"يهدوت هتوراة" دعمًا مباشرًا للمحتجين، معتبرة أن أي محاولة لتجنيد الحريديم تشكل مساسًا بالهوية الدينية للمجتمع.
- دعم كبار الحاخامات: أصدر كبار الحاخامات في إسرائيل بيانات تحذر من المساس بحق الطلاب في التركيز على دراسة التوراة، معتبرين أن الخدمة العسكرية غير مناسبة لهم، وأنها قد تضر بالقيم الدينية للمجتمع.
- تصعيد سياسي وتفاعلي: انضم إلى المظاهرات بعض وزراء اليمين المتطرف، وعلى رأسهم إيتمار بن جفير وزير الأمن القومي، ما أعطى الاحتجاجات صبغة سياسية مباشرة، واعتُبرت رسالة تحدٍ للحكومة المركزية ووزير الدفاع.
- الجدل مع المعارضة: في المقابل، اعتبرت المعارضة العلمانية والليبرالية أن رفض الحريديم للتجنيد يشكل إشكالية في المساواة أمام القانون، لكن بعض قيادات المعارضة استغلت الاحتجاجات لإظهار التضامن مع مطالب الحريديم في إطار تحقيق توازن بين الدين والدولة، ما زاد من تعقيد المشهد السياسي.
- وسائل التواصل وأثرها: لعبت المنصات الرقمية دورًا كبيرًا في نشر مقاطع الفيديو والصور من المظاهرات، مما أشعل النقاش داخل المجتمع الإسرائيلي، وزاد من الضغط على الحكومة للبحث عن حلول وسطى، دون التسبب في أزمة مفتوحة مع المجتمع الديني.
باختصار، شكلت مظاهرات الحريديم حلقة أساسية في سلسلة الاحتجاجات الإسرائيلية، إذ جمعت بين القيم الدينية، الصراع السياسي، وأزمة الثقة بالمؤسسات الحكومية، مما أضاف بعدًا جديدًا لتفسير استمرار المظاهرات حتى في ظروف "تهدئة" الوضع الأمني.
المظاهرات ليست مجرد احتجاج: مؤشر على أزمة الديمقراطية
من خلال متابعة الموجات المستمرة للمظاهرات الإسرائيلية منذ 2022 وحتى 2025، يتضح أن ما يحدث في الشارع لا يقتصر على رفض حكومة بعينها، بل يعكس أزمة هيكلية أعمق في كيان الاحتلال الإسرائيلي نفسه.
- المظاهرات لم تتوقف رغم الانسحاب الجزئي للجيش من غزة، وقف إطلاق النار، عودة معظم الأسرى، وحتى تحركات الحكومة الداخلية لتهدئة الأوضاع.
- الأمر لا يتعلق فقط بالسياسات الأمنية أو الحرب على غزة، بل بفقدان ثقة الجمهور الإسرائيلي في القيادة وغياب المساءلة.
- تصرفات نتنياهو وأسرته، من محاولات العفو الاستثنائي، إلى تدخل زوجته في الشؤون السياسية، وامتناع ابنه عن المشاركة في الاحتياط، جميعها أظهرت للمجتمع الإسرائيلي أن السلطة ليست مسؤولة عن حماية المواطنين، بل مهتمة بالحفاظ على مصالح شخصية وعائلية.
إذا سقطت حكومة نتنياهو غدًا أو حتى بعد الانتخابات المرتقبة في 2026، فمن المحتمل أن تهدأ بعض الاحتجاجات المؤقتة، لكن جوهر الأزمة لن يزول، فالمظاهرات اليوم أصبحت تعبيرًا عن رفض هيكلي لممارسات السلطة، وتأكيدًا على ضرورة استقلالية القضاء، المساءلة، وحماية الحقوق المدنية.
ففي حقيقة الأمر الأزمة أعمق من أي شخصية أو حكومة بعينها؛ هي أزمة ثقافة سياسية واجتماعية تتعلق بالثقة بين الدولة ومواطنيها، وتوازن السلطات، وحق الشعب في أن تُحترم مصالحه دون سيطرة مطلقة لطبقة سياسية أو دينية أو عسكرية.
باختصار، ما تشهده إسرائيل اليوم ليس مجرد أزمة حكومة، بل اختبار كبير لبنية الدولة المزعومة القوية نفسها: هل ستبقى المؤسسات صامدة ومستقلة، أم أن السلطة المطلقة ستستمر في تحجيم الديمقراطية والمساءلة؟ المظاهرات هي مؤشر حي على أن الشعب لم يعد مستعدًا لقبول أي تجاوزات، وأن أي حكومة، مهما كانت، ستظل تحت رقابة مستمرة ما لم تحدث إصلاحات جوهرية.
يوضح الواقع في الشوارع الإسرائيلية أن المظاهرات تمثل مؤشرًا حقيقيًا على ضعف النظام، واحتمالية تعرض الكيان لهزات سياسية واجتماعية كبرى قبل وصوله للعقد الثامن (2028) من بداية قيامه في 1948.








