و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

 هناك فرق كبير بين أن تكون "عمرو" اسمًا في بطاقة الهوية، وأن تتحول إلى "عمرو" مهنةً ومنهجًا في الحياة. عندما تصبح "عمرو" مهنة، أي شخص يعتاش على الشتائم والتحريض، وتعتلي رأسه القرون، وقتها لا بد أن نقول لك بصوت واضح: اخرس يا عمرو.

الفنان الهارب "عمرو واكد"، الذي اختار أن يستبدل خشبة المسرح بكاميرا الهاتف المحمول و"بث مباشر" من منفى آمن، لم يكتفِ بإسقاط نفسه فنيًا، بل قرر أن يسقط أخلاقيًا ووطنيًا أيضًا. لم يعد الأمر مجرد اختلاف سياسي أو انتقاد لسياسات الدولة، بل تحوّل إلى تحريض سافر على القتل، ودعوة علنية لضباط الشرطة للهروب، مقرونًا بتذكيرهم بمصير الموت إن لم يفعلوا.

اللغة التي استخدمها "عمرو واكد" في تدوينته الأخيرة لم تكن عابرة، ولم تكن زلة لسان. بل كانت صياغة متعمدة، مشحونة بالرسائل المسمومة. التحريض على قتل رجال الشرطة ليس مجرد تجاوز، بل هو فعل إرهابي مكتمل الأركان. لا يختلف في جوهره عن البيانات التي كانت تصدرها التنظيمات المسلحة قبل تنفيذ عملياتها، والتي تسبقها دائمًا دعوات علنية لاستهداف رجال الأمن عندما تطالب ضباط الشرطة بالهرب، فأنت لا تخاطبهم بقدر ما تخاطب خصومهم المسلحين، وتبعث لهم برسالة مفادها: "أنتم على حق.. استمروا". وعندما تذكرهم بمصير القتل، فأنت تضع على صدورهم "إشارة تصويب" للرصاص الغادر.

كان من الممكن أن يظل "عمرو" فنانًا، يعبّر عن آرائه السياسية في إطار النقد السلمي، حتى لو كان نقدًا لاذعًا أو حتى جارحًا. لكن المشكلة أنه اختار أن يخلع عباءة الفنان، ويرتدي عباءة "البوق"، لا بوقًا للحقيقة، بل بوقًا للتحريض والتجييش ضد أبناء وطنه والأدهى من ذلك أنه يفعل ذلك من الخارج، حيث لا يطال يده قانون ولا يدركه خطر. يعيش في أمان، بينما يرسل كلمات قاتلة إلى الداخل، يدرك تمامًا أن تنفيذها سيجري بدماء غير دمه.

هذا النموذج من "المناضلين" الوهميين يثير السخرية. يصرخ ليل نهار عن القمع والحرية وحقوق الإنسان، لكنه في الوقت نفسه لا يجد حرجًا في الدعوة إلى قتل فئة كاملة من أبناء الشعب، لأنهم يرتدون زيًا رسميًا، ويمارسون وظيفة حماية القانون أي منطق هذا؟ أي حقوق إنسان تلك التي تبدأ بالتحريض على القتل وتنتهي بالدعوة لهروب حماة الأمن؟ هذا ليس نضالًا، بل انتقام شخصي مقنّع بشعارات رنانة.

حرية التعبير حق مقدس

من المهم أن نعيد التأكيد على أن حرية التعبير حق مقدس، لكنها ليست مطلقة، فالقانون في كل دول العالم، حتى الأكثر ديمقراطية، يجرّم التحريض المباشر على العنف. الولايات المتحدة نفسها، التي يتغنى بها البعض كمثال، تضع "التحريض على أعمال غير قانونية ووشيكة" خارج مظلة حرية التعبير. فما بالك بالتحريض على القتل المباشر؟ وبالتالي، فإن ما فعله "عمرو" ليس رأيًا سياسيًا، ولا نقدًا مشروعًا، بل هو تحريض جنائي، يستحق المحاسبة والمساءلة، لأنه يشكل تهديدًا مباشرًا لحياة أشخاص محددين، ويزعزع أمن المجتمع بأسره.

من السهل جدًا أن تهاجم رجال الشرطة من بعيد، ومن السهل أن تتهمهم بما تشاء وأنت جالس على أريكة مريحة في شقة مؤجرة بأوروبا أو في فيلا بدولة أخرى. لكن من الصعب أن تعترف أن هؤلاء الضباط هم خط الدفاع الأول عنك أنت أيضًا، حتى لو كنت تكرههم الحقيقة التي يتناساها "عمرو" وأمثاله أن الشرطة ليست مجرد مؤسسة، بل هي جزء من نسيج الوطن. نعم، قد توجد أخطاء وتجاوزات، وهذه تناقش وتُحاسب في إطار القانون، لكن الدعوة إلى قتل الضباط، أو هروبهم ليست إصلاحًا، بل هي هدم للبيت على من فيه.

ما يفعله "عمرو" ليس فقط مخالفة للقانون، بل هو سقوط أخلاقي مدو، فالفنان الحقيقي دوره أن يبني وعيًا، لا أن يزرع كراهية. أن يفتح باب الحوار، لا أن يفتح النار بالكلمات عندما يصبح الفنان محرضًا، فإنه يفقد هويته كصانع جمال وفكر، ويتحول إلى مجرد أداة قبيحة في يد أجندات لا ترى في الوطن سوى ساحة صراع، وفي الدم سوى وسيلة لتحقيق غاياتها يا "عمرو"، الوطن أكبر منك، وأكبر من تدويناتك ومقاطعك المباشرة. الشرطة التي تطالب بهروبها هي التي تحميك أنت وأهلك وأصدقاؤك، حتى وأنت تهينها وتحرض ضدها. قد تظن أنك تنتصر لقضية، لكنك في الحقيقة تنتصر للفوضى.

لا أحد يطالبك بالصمت عن الخطأ، لكن الفرق كبير بين أن تنتقد وأن تحرض. النقد يبني، أما التحريض فيهدم. والنقد يمكن أن يُحترم حتى لو اختلفنا معه، أما التحريض فلا يستحق سوى الازدراء، والملاحقة تحريضك على قتل الضباط لن يسقط الدولة، لكنه سيسقطك أنت أكثر مما سقطت، فالتاريخ لا يرحم من دعا إلى الدم، والشعوب لا تحترم من تاجر بدماء أبنائها الوطن لا يحتاج مزيدًا من الغضب الأعمى، ولا من الأصوات التي تصرخ من الخارج  بينما يواجه الداخل تحدياته. يحتاج إلى من يبني لا من يهدم، إلى من يضمد الجراح لا من ينكؤها بمشرط الكراهية فاختر لنفسك، يا "عمرو"، أي عمرو تريد أن تكون: عمرو الهارب فقط، أم عمرو المحرض الإرهابي الذي يُذكر كعبرة على أن الشهرة قد تقتل صاحبها إذا تحولت إلى منبر للكراهية؟

تم نسخ الرابط