في ظل التطورات الاقتصادية المتسارعة محليًا ودوليًا، باتت سياسة أسعار الفائدة محل اهتمام متزايد من المستثمرين والأفراد ومجتمع الأعمال، لما تمثله من أداة محورية في توجيه دفة الاقتصاد. فأسعار الفائدة لا تعكس فقط توجهات السياسة النقدية، بل تمتد آثارها المباشرة إلى معدلات التضخم، وحجم الاستثمارات، وفرص النمو الاقتصادي.
ومع طيّ عام 2025 صفحاته، يترقب الشارع الاقتصادي المصري بوصلة السياسة النقدية للبنك المركزي المصري مع مطلع عام 2026، خاصة بعد فترة ممتدة من السياسات الانكماشية وارتفاع أسعار الفائدة التي استهدفت كبح الضغوط التضخمية. هذا الترقب يطرح تساؤلات جوهرية حول المرحلة المقبلة: هل يقترب الاقتصاد من نقطة تحول نحو التيسير النقدي؟ وما هو المسار المتوقع لأسعار الفائدة خلال الربع الأول وعلى مدار عام 2026؟
وتأتي هذه التساؤلات في إطار سعي البنك المركزي لتحقيق معادلة دقيقة بين هدفين متلازمين؛ احتواء التضخم من جهة، ودعم النشاط الاقتصادي والاستثماري من جهة أخرى، في مرحلة دقيقة من مسار الاقتصاد المصري تتطلب قرارات محسوبة وتوازنًا دقيقًا بين الاستقرار والتحفيز.
الحذر قصير الأجل
في ضوء المشهد الاقتصادي الراهن، تتجه توقعات السياسة النقدية إلى قدر كبير من الحذر والترقب على المدى القصير، يقابله ميل تدريجي للتيسير على المدى المتوسط. فالمؤشرات الكلية تشير إلى تراجع نسبي في معدلات التضخم مقارنة بذروات الأعوام السابقة، إلى جانب تحسن تدريجي في مؤشرات الاستقرار النقدي نتيجة الإصلاحات الاقتصادية والتعامل الأكثر مرونة مع سعر الصرف، فضلًا عن انحسار حدة الضغوط الخارجية مع استقرار نسبي في أسعار السلع العالمية. هذا السياق يدفع السياسة النقدية إلى الاقتراب من التحول من مرحلة “التشديد الوقائي” إلى “التيسير الحذر”.
وعلى هذا الأساس، اتوقع أن يشهد الربع الأول من العام القادم – مطلع 2026 – استقرارًا في أسعار الفائدة أو خفضًا محدودًا للغاية. ويعود ذلك إلى حرص البنك المركزي المصري على التأكد من استدامة تراجع التضخم، وتجنب إرسال إشارات تيسيرية مبكرة قد تُحدث ضغوطًا تضخمية أو مضاربات على سوق الصرف، فضلًا عن انتظار وضوح الرؤية عالميًا فيما يتعلق بمسار السياسات النقدية في الاقتصادات الكبرى. كما أن تحسن تدفقات النقد الأجنبي ودعم السيولة الدولارية يقللان الحاجة لاستخدام الفائدة كأداة جذب استثنائية، في وقت تسعى فيه الدولة إلى حماية معدلات النمو وتشجيع الاستثمار.
أما على مدار عام 2026 ككل، فيُتوقع أن يكون عام التحول التدريجي نحو دورة تيسير نقدي أوسع، وإن ظل ذلك مشروطًا باستمرار انحسار التضخم واقترابه من النطاق المستهدف، وتعزيز الاحتياطي النقدي، واستقرار سعر الصرف، وتحسن التصنيف الائتماني. في هذا السيناريو المرجح، قد يشهد العام خفضًا تراكميًا ملموسًا في أسعار الفائدة، مدفوعًا باعتبارات مالية واقتصادية، في مقدمتها تخفيف عبء خدمة الدين العام، وتحفيز القطاع الخاص على التوسع والاستثمار، إلى جانب التناغم مع الاتجاه العالمي المتوقع نحو خفض الفائدة في الاقتصادات الكبرى، بما يتيح مساحة أوسع للتحرك دون مخاطر كبيرة على تدفقات رؤوس الأموال.
وبذلك، يمكن القول إن السياسة النقدية مقبلة على مرحلة إعادة ضبط محسوبة، لا تقوم على قرارات حادة أو قفزات مفاجئة، بل على تدرج واعٍ يوازن بين متطلبات الاستقرار النقدي وضرورة تحفيز الاستثمار والنمو.
من المهم التأكيد على أن خفض الفائدة ليس هدفًا في حد ذاته، بل وسيلة ضمن حزمة سياسات أشمل. فالتعجل في التيسير النقدي دون معالجة الاختلالات الهيكلية قد يعيد إنتاج الضغوط التضخمية مرة أخرى، بينما يؤدي الإفراط في التشدد إلى خنق النمو والاستثمار.
ومن ثم، فإن التحدي الحقيقي أمام صانع السياسة النقدية خلال 2026 يتمثل في تحقيق معادلة دقيقة بين استقرار الأسعار وتحفيز الاقتصاد، مع الحفاظ على ثقة الأسواق والمؤسسات الدولية.
لذا وفي ضوء المعطيات الحالية، تتجه السياسة النقدية في مصر نحو مرحلة أكثر توازنًا يُرجَّح معها أن يشهد عام 2026 بداية فعلية لمسار خفض أسعار الفائدة، ولكن بوتيرة محسوبة تعكس نضج القرار النقدي وتراكم الخبرة في إدارة الأزمات الاقتصادية المعقدة. وفي إطار مسار الإصلاح الاقتصادي الطموح الذي تمضي فيه الدولة، تظل سياسة سعر الفائدة أداة محورية لتحقيق معادلة دقيقة بين احتواء التضخم والحفاظ على زخم النمو.
وعلى المدى القريب، تشير التوقعات إلى قدر من الاستقرار، بينما ستظل المرونة سمة أساسية للسياسة النقدية على المدى المتوسط، استجابة لمتغيرات محلية ودولية ديناميكية. ويبقى النجاح في تحقيق أهداف خفض التضخم دون الإضرار بالنشاط الاقتصادي هو العامل الحاسم في تحديد مسار أسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة، في مشهد اقتصادي يتطلب توازنًا دقيقًا بين أولويات متعددة.
رسالة للمستثمرين
في ضوء التوقع بخفض الفائدة، أوجه رسالتي إلى مجتمع الأعمال والمستثمرين المحليين بأن المرحلة المقبلة تمثل فرصة لإعادة التوسع الإنتاجي والاستثماري، خاصة في القطاعات القادرة على التصدير أو الإحلال محل الواردات.
خفض الفائدة – ولو بمعدلات محدودة – يعني تخفيف تكلفة التمويل وتوسيع القدرة على الاقتراض والاستثمار، بما يعزز النمو ويوفر فرص عمل جديدة.
كما أن هذا التوجه يعكس ثقة السياسة النقدية في استقرار الاقتصاد المصري، ويبعث برسالة إيجابية للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، بأن بيئة الأعمال في مصر تسير نحو مزيد من الاتزان والمرونة المالية








