و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

انتشر مؤخرًا فيديو زفاف لشاب من ذوي متلازمة داون. مشهد واحد، لكنه حرّك جدلًا وطنيًا كاملاً:هل يحق له الزواج؟ هل يفهم ما يعنيه الارتباط؟ هل وافقت العروس؟ لماذا كانت تبكي؟ أسئلة متلاحقة تُطرح لا على العريسين، بل عنهما. وكأن الحب تهمة، وكأن الزواج ليس اختيارًا بل ملف تحقيق جماعي.

وأنا أتابع الفيديو، شعرت بشيء أكبر من الجدل شعرت بثقل التجربة التي مررت بها منذ سنوات، حين طُلب مني كأخصائية نفسية إجراء تقييم لفتاة من ذوي متلازمة داون، بهدف تحديد ما إذا كانت قادرة على اتخاذ قرار بالدخول في علاقة جنسية وكنت آنذاك في بداياتي المهنية. فتحت كُتب الاختبارات، بحثت كثيرًا، سألت مشرفي:

ما الذي يمكننا استخدامه؟ هل يوجد “اختبار” للقدرة على الحب؟ على الرفض؟ على الإدراك الجنسي؟

لم أجد إجابة واحدة وجدت فقط خليطًا من أدوات قياس الذكاء، الوظائف التنفيذية، والمقابلات السريرية — لكنها لم تكن كافية لأن السؤال الحقيقي لم يكن في النتائج… بل في الشرعية: من أنا لأقرر؟ من نحن لنمنح أو نسحب “أهلية العاطفة”؟ وهنا برزت مخاوف أعمق — ليس من غياب التقييم، بل من وهم الاكتفاء به:

كيف نعرف أنها لن تُستخدم؟ لن تُدفع للموافقة بطرق لا تدركها؟ هل فهمت الفارق بين الرغبة والاستجابة؟

نعم، نحن نُجري اختبارات. نُقيّم الفهم، ونبحث عن مؤشرات الوعي والموافقة لكن في حالات كهذه، ندرك أن الاختبار لا يكفي وحده أن الشرط ليس فقط القدرة على الفهم، بل وجود مناخ يحترم الرفض كما يحتفي بالموافقة.

تذكرت حينها مسلسل “سارة” — حيث تقع شابة من ذوي الإعاقات الذهنية في حب طبيبها، الذي يقرر الزواج منها لم يكن المسلسل قصة حب، بل درسًا قاسيًا في اختلال السلطة، حين يُستبدل الحب بالامتنان، والموافقة بالخضوع وفي المقابل، تذكرت فيلم I Am Sam، العمل الذي اعتبرته الأكثر صدقًا
كأخصائية لم يُقدّم سام كضحية ولا كبطل. بل كشخص محدود، لكنه مُحب. أب يسهو، ويتلعثم، لكنه لا يكفّ عن المحاولة لم يُطالبنا الفيلم بالحكم… بل بالإنصات. لم يخبرنا إن كان سام قادرًا على تربية طفل — بل سألنا: هل نحن قادرون على رؤية المعنى في جهده؟

الحقيقة العلمية تقول:

• النساء من ذوات متلازمة داون يمكنهن الإنجاب وتصل احتمالية إنجاب طفل لديه المتلازمة إلى 35–50%.

• أما الرجال، ففي الغالب غير خصبين، لكن هناك حالات نادرة موثّقة.

• والأهم، أنه لا يوجد “اختبار واحد” يقيس الأهلية للزواج أو الإنجاب، بل تقييم شامل للسياق، والقدرة، والدعم، والأمان العاطفي.

لكننا نعود للسؤال الذي يزعج أكثر مما يطمئن:

وهل من حق أحد، مهما كانت خلفيته، أن يُصدر شهادة صلاحية عاطفية لإنسان آخر؟ لكن حين يكون العريس من ذوي متلازمة داون، تتحوّل “الحرية” إلى تهمة، و”الاختيار” إلى استغلال، و”الحب” إلى مسرحية فجأة، نصبح جميعًا أوصياء على جسده، على مشاعره، على حقه في أن يحلم هل نمنعهم من الزواج؟ وإذا تزوجوا، هل نمنعهم من الإنجاب؟ هل نُخضعهم لجراحة لمنع الحمل بحجة “المسؤولية”؟

هل نمارس التعقيم باسم الرحمة؟ أليست هذه أفكارًا مألوفة من صفحات أكثر ظلامًا في التاريخ؟

إذا كنّا نخشى على الأشخاص من ذوي متلازمة داون من الحب، فلنسأل أنفسنا: هل نحن نخاف عليهم؟ أم نخاف منهم؟ نخاف من أن نراهم بشرًا كاملي الاحتياج؟ نخاف من أن نُجبر على إعادة تعريف “الإنسان” خارج قوالب التفوق العقلي والشكل المثالي؟ ربما الزواج الذي رأيناه حقيقي، وربما لا.

ربما كانت العروس تبكي من فرح، أو من ضغط لا نعلم. ولن نعلم.

لكن ما نعلمه هو هذا: حين يُصبح حب الإنسان محلّ تحقيق جماعي، فالمشكلة ليست في الحب… بل في الجماعة.

تم نسخ الرابط