جاءت الزيارة الرسمية لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة كعرضٍ بديعٍ للغة الجسد الدبلوماسية: لا شعاراتٍ متكلفة هنا ولا خطبٌ تصطنع الانحناء، بل حضورٌ طاغٍ يقرأه القاصي والداني في كل إيماءة ومصافحة ومشهد تصويري.
استقبالُ الرئيس ترامب لضيفه كان استثنائيًا — من مراسم الاستقبال الرسمي إلى مأدبة العشاء المسائي — مشهدٌ صُمّم ليقرأه العالم: تحالفٌ استراتيجي يعيد ترتيب أوراق النفوذ والاقتصاد.
اللغة الأولى التي استخدمها القائدان لم تكن كلماتٍ مكتوبة في بيانات صحفية، بل جسداهما: مصافحةٌ طويلة، لمساتٌ ودّية على الكتف، ابتساماتٌ متبادلة، ونبرةُ حديثٍ تبدو أحيانًا أقوى من أي بيانٍ رسمي.
هذه العلامات الصغيرة بنحتها تخلق ثقة بصرية؛ فحين يضع الرئيس يده على كتف ضيفه ويدخله من باب البيت الأبيض، يعلن عن علاقة أقوى من محض صفقة — إعلانٌ عن التقاء إرادات.
أما على مستوى المضمون العملي فقد حمل اللقاء ملفاتٍ كبرى: صفقات دفاعية واستثمارات ضخمة، ونقاشات حول الطاقة والذكاء الاصطناعي والتعاون النووي، وهي بنودٌ تُعيد تعريف الشراكة الأميركية-السعودية بوصفها شراكة مصالحٍ متبادلة وطويلة الأمد، لا لقاء مراسمٍ لحظة زائلة.
هذا توازنٌ بين المظهر والجوهر: حضور بصريٌّ قويٌّ، وآليات عملٍ متفقٌ عليها خلف الستار.
السياسة اليوم
من زاويةٍ مغايرة، تُذكّرنا مثل هذه اللقاءات بأن السياسة اليوم هي فنُّ الإدارة الرمزية: المشهد العام يُحوَّل إلى رسالة ذات حمولة نفوذ واطمئنان للأسواق والحلفاء.
حضور محمد بن سلمان إلى واشنطن مخطّطٌ له، وكل لقطةٍ علنية كانت تعمل على سِجلٍ مزدوجٍ: خطاب داخلي يسوّق للقوة والإصلاح، وخطاب خارجي يعيد كتابة قواعد التفاهم في منطقةٍ تمرّ بتحوّلات بالغة.
وفي العودة إلى ربوع المغرب والمشرق، لا بد أن نقرأ هذه الزيارة بمنظارٍ واقعيٍ وعملي: حين تتحدّث لغة الجسد والصفقات، فإنّ الفرص تتخلق — استثمارات، مشاريع، مراكز بحث وتبادل تجاري.
ومن بلدٍ يحبّ الفعل قبل الكلام، نبارك أي مسارٍ يعزّز الاستقرار والتنمية، ونقول إن الدبلوماسية الناجحة هي التي تصنع شروط العمل قبل أن تكتب بنود الاتفاق.
السياسة تُمارَس اليوم بعينٍ ثانية، عينُ الصورة والرمز قبل الكلمة، ومشهدُ البيت الأبيض الأخير كان أفضل درسٍ في هذا المنهج: حين يتحدّث الحضور، يصغي العالم.




