لم يعد الحديث عن نزاهة الانتخابات ترفًا سياسيًا، بل أصبح مبدأً دستوريًا أصيلًا يحمى جوهر العملية الديمقراطية. فالاستحقاق الانتخابى لا يقوم على صناديق الاقتراع وحدها، وإنما على مجموعة من الضمانات الدستورية التى إن اختلّ أحدها، سقطت العملية بأكملها وأصبحت غير صالحة لإنتاج إرادة شعبية معتبرة.
أولًا: الإخلال الجسيم بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص (مادتان 9 و87 من الدستور)
يقضى الدستور بأن تتساوى الفرص بين المرشحين دون تمييز. فإذا جرى تفضيل قوى سياسية بعينها فى مرحلة الترشح، أو تيسير إجراءاتها على حساب غيرها، أو توزيع أرقام انتخابية جاهزة على أحزاب معينة، فإن ذلك يمثل انحرافًا إداريًا ودستوريًا يهدم المنافسة من أساسها.
فالمساواة ليست إجراءً شكليًا، بل ركن جوهرى لا تُبنى انتخابات نزيهة من دونه.
ثانيًا: فقدان حياد أجهزة الدولة
يحظر الدستور استخدام مؤسسات الدولة أو سلطاتها أو مواردها فى خدمة مرشح أو حزب. وانخراط أى جهاز تنفيذى فى دعم طرف على حساب آخر يُعد مساسًا مباشرًا بسلامة العملية الانتخابية وعيبًا جسيمًا من عيوب الانحراف بالسلطة وفقًا لقضاء مجلس الدولة.
وفى حال ثبوت هذا التدخل بشكل ممنهج، تصبح العملية برمتها غير دستورية وغير قابلة للتصحيح.
ثالثًا: انهيار سرية ونزاهة الاقتراع
الاقتراع السرى المباشر هو جوهر الإرادة الشعبية. وأى واقعة تمسّ سرية التصويت – مثل خروج بطاقات الاقتراع خارج اللجان أو تداولها فى الطرقات أو وجود بطاقات مُعلَّمة مسبقًا بحوزة أفراد – تُعد إعدامًا كاملًا للنزاهة.
ووفقًا للمعايير الدستورية والقضائية، هذه المخالفات لا تبطل صندوقًا أو لجنة، بل تنسف العملية كلها لأنها تُفقدها شرط السرية الذى لا يقبل التجزئة.
رابعًا: تفشى المال السياسى وشراء الأصوات
يحظر الدستور التأثير غير المشروع على إرادة الناخب، ويعتبر استخدام المال فى الدعاية الانتخابية أو حشد الأصوات جريمة انتخابية تمسّ جوهر العملية.
وإذا تحولت الرشاوى العلنية أو المقنّعة إلى ظاهرة، فإن الإرادة الحرة للناخب تصبح مستحيلة التحقق، وبذلك تفقد العملية معناها الدستورى وينعدم أثرها القانونى.
خامسًا: غياب الرقابة الفعلية للهيئة الوطنية للانتخابات
الهيئة الوطنية ليست جهة تنظيمية فحسب، بل هى ضمانة دستورية لسلامة الانتخابات. وامتناعها عن رصد المخالفات الجسيمة أو تجاهل وقائع تمسّ النزاهة – رغم ظهورها للعلن – يُعد قصورًا رقابيًا يطيح بشرعية العملية من أساسها.
فإذا تعطلت الرقابة، أصبح الاستحقاق بلا حماية دستورية.
سادسًا: فساد البيئة الانتخابية منذ لحظة الترشح
تبدأ العملية الانتخابية بالدعوة للترشح لا يوم التصويت. وإذا شاب مرحلة الترشح تمييز، أو منع غير مبرر، أو تلاعب فى توزيع الأرقام، أو تيسير لطرف دون آخر، فإن العملية تصبح فاسدة منذ لحظة ميلادها، ويطبق عليها المبدأ الدستورى:
"إذا فسد الأصل بطل الفرع".
الخلاصة
إن البطلان الدستورى لا يثبت عند وجود خطأ عارض أو تجاوز فردى، وإنما يثبت عندما تتعرض الضمانات الجوهرية للانهيار: المساواة، والحياد، والسرية، والنزاهة، والرقابة، وحرية الإرادة.
وحين تظهر فى أى استحقاق انتخابى وقائع تتعلق بخروج بطاقات الاقتراع خارج اللجان، واستخدام المال السياسى، وتدخل أجهزة تنفيذية، وتحيز فى مرحلة الترشح، وغياب رقابى واضح… فإن هذه الوقائع مجتمعة كافية دستوريًا لإهدار العملية بالكامل وإعادة بنائها من جديد.
فالانتخابات ليست طقسًا شكليًا، بل ممارسة دستورية لا تُقبل إلا فى بيئة نزيهة، محايدة، ومتساوية. وما دون ذلك لا يُنتج شرعية ولا يعكس إرادة شعبية معتبرة.
المستشار الدكتور/نزيه الحكيم
الخبير الدستورى




