مع نهاية عام 2025، بات واضحًا أن الحرب الروسية الأوكرانية تدخل مرحلة مختلفة لم تعد فيها التحركات العسكرية مجرد تبادل مواقع، بل تغيرات استراتيجية تُعيد رسم المشهد الأوروبي برمته. فالتقدم الروسي الكبير في إقليم الدونباس والسيطرة المتتابعة على مزيد من القرى والبلدات منح موسكو أفضلية ميدانية هي الأبرز منذ بداية الحرب، ودفع العالم إلى الاعتقاد بأن الصراع بات يقترب من لحظة مفصلية، لحظة الانتقال من ساحة القتال إلى طاولة التفاوض. هذا التطور ترافق مع تسارع الحديث عن خطة جديدة لإنهاء الحرب يقودها دونالد ترامب، الذي بات حاضراً في المشهد الدولي بصفته صاحب مبادرة سياسية يُراد لها أن تنهي الصراع وتفتح الباب أمام معادلة عالمية جديدة.
التقدم الروسي الأخير لم يكن مجرد نصر عسكري محدود، بل خطوة استراتيجية تهدف إلى ترسيخ السيطرة على أهم إقليم صناعي في أوكرانيا، وفرض واقع ميداني يصعّب على كييف وحلفائها التفاوض من موقع القوة. كما شكّل هذا التقدّم رسالة مباشرة لأوروبا بأن روسيا قادرة على تغيير خرائط النفوذ بالقوة إذا اقتضت مصالحها ذلك، في وقت تراجع فيه المخزون الأوروبي من الذخائر وتنامى الإرهاق العسكري والاقتصادي، ما جعل العواصم الغربية تعيد النظر في جدوى استمرار حرب طويلة لا تبدو لها نهاية قريبة.
في هذا السياق، برزت خطة ترامب التي تقوم – وفق التسريبات السياسية – على وقف شامل لإطلاق النار بضمانة أمريكية وأوروبية، وتجميد خطوط التماس الحالية بشكل مؤقت تمهيدًا لمفاوضات حول الوضع النهائي لمناطق الشرق، مقابل تعهد بعدم ضم أوكرانيا للناتو لفترة زمنية محددة، مع ضمانات تحافظ على سيادتها واستقلال قرارها السياسي. ترامب يسعى لتقديم نفسه كصاحب “الصفقة الكبرى”، مستفيدًا من علاقته السابقة ببوتين ومن رغبة موسكو في تحويل مكاسبها الميدانية إلى اعتراف دولي ولو جزئي.
ورغم التحفظات، ظهر قبول مبدئي بفكرة الخطة لثلاثة أسباب رئيسية. أولها الإرهاق العسكري لدى أوكرانيا وأوروبا، حيث تواجه كييف أزمة وجودية في ظل الاستنزاف المستمر، بينما تدرك أوروبا أنها غير قادرة ماليًا وعسكريًا على تحمل حرب مفتوحة لسنوات. ثانيها الخشية من انفجار مواجهة أوسع، وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما تحدث عن أن القارة تقف على حافة مواجهة كبرى مع روسيا، مما أثار قلقًا داخل الناتو من تصعيد غير محسوب. أما السبب الثالث، فهو تراجع اهتمام واشنطن بالملف الأوكراني مقارنة بملفات التنافس مع الصين واحتواء تحولات الشرق الأوسط، ما جعل الحرب تبدو عبئًا استراتيجيًا أكثر منها أولوية أمريكية.
التحدي الأكبر
التحدي الأكبر أمام ترامب ليس موسكو، بل العواصم الأوروبية القلقة من أي تسوية تمنح روسيا نفوذًا أكبر. لذلك يُرجّح أن يعتمد ترامب على الضغط الاقتصادي عبر التلويح بتقليص الدعم العسكري لأوروبا إذا رفضت التسوية، وإعادة تعريف دور الناتو ليصبح تحالفًا دفاعيًا يمنح الأوروبيين شعورًا بالأمان دون استفزاز روسيا، بالإضافة إلى تقديم صفقات طاقة طويلة الأمد تعوض أوروبا عن فقدان الغاز الروسي وتجعل قبول التسوية أقل تكلفة على المدى البعيد. بهذه الأدوات يحاول ترامب إقناع الأوروبيين بأن التسوية ليست هزيمة، بل مخرج اضطراري يمنع القارة من الانزلاق إلى صدام مباشر قد يكون الأكثر خطورة منذ الحرب العالمية الثانية.
حالة الاحتقان في أوروبا اليوم تتجاوز الخطاب السياسي لتصل إلى مستوى التوتر الأمني، إذ إن تزايد مناورات الناتو شرقي القارة، مقابل التحركات العسكرية الروسية قرب بولندا ودول البلطيق، يجعل أي خطأ تكتيكي قادرًا على إشعال مواجهة مباشرة. ومع إدراك باريس وبرلين وروما أن غياب حل سياسي قد يفتح الباب أمام سيناريو كارثي، تبقى خطة ترامب بالنسبة لكثيرين طوق نجاة قبل الوصول إلى لحظة الانفجار.
لكن الأبعاد الأخطر تتجلى فيما بعد الحرب؛ إذ إن نهاية الصراع ستؤدي إلى تغييرات عميقة في ميزان القوى العالمي. فروسيا ستخرج أقوى عسكريًا وجيوسياسيًا بعد تثبيت نفوذها شرقي أوكرانيا وإثبات قدرتها على مواجهة الغرب، بينما ستظهر أوروبا أكثر ضعفًا وانقسامًا بعد أن فقدت ثقتها بقدرتها على الدفاع عن نفسها دون الدعم الأمريكي. في المقابل ستعيد الولايات المتحدة تموضعها للتركيز على التنافس مع الصين، فيما ستجد بكين نفسها المستفيد الهادئ من إضعاف أوروبا وانشغال واشنطن بتوازنات جديدة. وحتى الناتو لن يبقى على صورته التقليدية، بل سيتحول إلى تحالف دفاعي أكثر حذرًا وأقل ثقة.
في المحصلة، لن تكون نهاية الحرب مجرد وقف لإطلاق النار، بل بداية فصل جديد في التاريخ الدولي؛ فصل تتراجع فيه الهيمنة الغربية المطلقة لصالح نظام عالمي متعدد الأقطاب. إن العالم اليوم لا يقف فقط أمام احتمال نهاية حرب، بل أمام بداية زمن دولي جديد، قد لا تحدده أصوات المدافع بقدر ما سترسم ملامحه كلمة واحدة تُقال على طاولة المفاوضات.




