في أرضٍ شَيَّدَتْ حضارتها على ضفاف النيل، وابتكرت عبر آلاف السنين القوانين والنظم لحماية الملكية وتوثيق الحقوق، يظل ملف التسجيل العقاري واحدًا من أكثر القضايا تعقيدًا وإثارة للجدل، فعلى الرغم من محاولات الإصلاح المتكررة والتشريعات المتعاقبة منذ مطلع القرن العشرين، ما تزال أزمة تسجيل الملكية العقارية جرحًا مفتوحًا يفرض نفسه على الواقع.
إنها قصة ممتدة بين ماضٍ ترك بصماته في البنيةالتشريعية، وحاضرٍ يواجه تحديات متشابكة، لتبقى الحاجة إلى إصلاح جذري وشامل ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل، فأزمة التسجيل العقاري في مصر ليست مجرد ملف إداري متعثر، بل إنعكاس عميق لتراكمات تشريعية لم تصل بعد إلى صياغة حاسمة تَمْنَحُ المواطن الثقة الكاملة في استقرار الملكية العقارية، خصوصًا في المدن القديمة.
فمنذ بدايات القرن العشرين، تعاقبت المحاولات وتعددت القوانين، لكن النتيجة بقيت واحدة: منظومة معقدة تتداخل فيها الجهات وتتنازع فيها الإختصاصات، حتى غدا الحصول على وثيقة ملكية معترف بها، رحلة شاقة تُثقل كاهل المواطن وتُعطل حركة الإستثمار، الباحث عن وثيقة تُثبت حقه في بيتٍ بناه أو أرضٍ ورثها.
ورغم أن الجمهورية الجديدة قطعت خطوات واسعة في تحديث بنيتها التشريعية وتطوير أدوات التوثيق، فإن ملف تسجيل الملكية العقارية ظل عصيًا على الحسم، وكأننا أمام جدار صلب لا ينكسر إلا بإرادة سياسية، وتشريعات جذرية.
التجربة الممتدة لأكثر من مائة عام تكشف أن الأزمة ليست في الإجراءات وحدها، بل في غياب رؤية موحدة تجعل من التسجيل العقاري منظومة رقمية متكاملة تحت مظلة واحدة، كما فعلت دول نجحت في تحويل ثروتها العقارية إلى قاطرة إقتصادية.
الأرقام الصادمة التي تشير إلى أن نحو 95٪ من العقارات في المدن القديمة خارج المنظومة الرسمية، تؤكد أن الإصلاح الجزئي لم يعد كافيًا، وأن الحل لا يَكمُن في تعديل مادة أو تبسيط إجراء، بل في إعادة بِنَاءٍ كاملة تُعِيدُ صياغة العلاقة بين المواطن والدولة في هذا القطاع الحيوي.
فالتسجيل العقاري ليس رفاهية قانونية، بل هو أساس حماية الملكية وضمانة للإستثمار وأداة لتعبئة الثروة القومية.
ويظل السؤال الأكثر إلحاحًا: هل آن أوان الخطوة الجذرية التي تعيد صياغة المنظومة من أساسها تَمَنَّح مصر نظامًا عقاريًا يليق بثقلها الحضاري وحجم ثروتها الإقتصادية، أم سنظل ندور في حلقة مُفْرَغَة من محاولات جزئية لا تلامس جوهر الأزمة؟
إن العقار المصري ما يزال يعيش في بيتٍ بلا عنوان، جدرانه قائمة لكن أوراقه معلّقة، وثروته حاضرة لكن سندها غائب، أزمة ممتدة قرنًا كاملًا لم تعد تحتمل ترقيعًا أو إصلاحًا جزئيًا، بل تحتاج إلى إعادة بناء شاملة، تُعِيد للملكية هيبتها وللإستثمار يقينه.
وبين نصوصٍ تتراكم وواقعٍ يتعثر، يبقى السؤال المعلّق: هل نرى قريبًا بابًا يُفتح بمفتاح واحد، أم سنظل ندور حول جدارٍ لا يملك أحد مفاتيحه، كأننا نبحث عن عنوانٍ في مدينة بلا خرائط؟
واخيرا وليس آخرا ، يظل ملف تسجيل الملكية العقارية أحد المفاتيح الجوهرية لإستقرار السوق وتعزيز ثقة المواطن والمستثمر على حد سواء، فكما نجحت الدولة في تطوير منظومة التوثيق وتحديث خدماتها، يبقى الأمل أن تمتد يد الإصلاح إلى هذا المجال الحيوي، عبر رؤية شاملة توحّد الجهات وتفعّل الرقم القومي للعقار، بما يفتح آفاقًا أوسع لتعظيم الإيرادات العامة، ويمنح الإستثمار بيئة أكثر أمانًا ووضوحًا، إن إصلاح هذا الملف ليس ترفًا إداريًا، بل ضرورة وطنية تفرضها متطلبات الحاضر وتطلعات المستقبل.







