
في لحظةٍ دقيقةٍ من تاريخ لبنان، أقدمت الحكومة على قرارٍ وصفته بـ”السّيادي”، يقضي بإنهاء الوجود المسلّح خارج الدّولة، بما يشمل سلاح حزب الله. خطوةٌ استثنائية، تُطرح في توقيتٍ استثنائيّ، وتفتح الباب أمام أسئلةٍ مصيريةٍ لا يمكن تجاهلها، أو الهروب منها بشعاراتٍ خشبيّة.
لكنّ السّؤال الحقيقيّ ليس “مع أو ضدّ سحب السّلاح”
ألسّؤال الأعمق هو هل لبنان مهيّأ اليوم لمواجهة ما سينتج عن هذا القرار؟ ومن سيدفع الثّمن إذا انهار التّوازن الهشّ؟
نحن نتفهّم تماماً من يُطالب بإنهاء الازدواجية في السّلاح، ومن يُصرّ على أنّ الدّولة وحدها يجب أن تحتكر القوة، هذا مطلبٌ مشروعٌ في أيّ دولةٍ طبيعيّة.
لكن، هل نحن فعلاً في دولةٍ طبيعية؟
هل نملك حدوداً مُصانة؟ اقتصاداً مستقراً؟ قضاءً مستقلاً؟ طبقةً سياسيةً تُشبه الدّول؟
هل زال الخطر الإسرائيلي؟ هل انسحب العدوّ من كلّ شبرٍ؟ هل توقّفت الاغتيالات؟
إذا كانت الإجابات “لا”، فإنّ توقيت القرار، لا مبدؤه، هو موضع الإشكال.
ولمن يدافع عن سلاح المقاومة صحيح أنّ هذا السّلاح حرّر، وصمد، وفرض توازن ردعٍ غير مسبوق، لكن من الخطير أن يُرفع في وجه الدّاخل، أو يُستعمل كوسيلة ضغطٍ ضدّ شركاء الوطن، أو يُوظّف في لعبة المحاور.
ما يحفظ شرعية السّلاح ليس فقط مواجهته للعدوّ، بل احترامه للدّاخل.
وإذا كانت المقاومة تُدافع عن الوطن، فالوطن أيضاً بحاجةٍ إلى أن يُدافع عنها… بشرط أن لا يُختزل بها وحدها.
هل ستسقط الحكومة في الشّارع؟
في موازاة القرار الخطير، تلوح في الأفق مؤشّرات صدامٍ ميدانيٍّ، لا سياسيٍّ فقط. فالتّلويح بمقولة “سأواجه الشّارع بالشّارع”، كما نُقل عن رئيس الحكومة ، يطرح تساؤلاتٍ جدّية..
من يقف خلفه؟ من يمدّه بالثّقة في مواجهة الشّارع؟ هل هي ورقةٌ خارجيةٌ وُضعت على الطّاولة؟ أم أنّ لحظة استخدامها لم تأتِ بعد؟
هذه ليست مجرّد كلماتٍ تُقال، إنّها إشارةٌ إلى أنّ المعركة المقبلة قد لا تُخاض في المجلس النّيابيّ، بل في السّاحات.
فهل نحن أمام حكومةٍ سيُسقطها النّاس، أم أمام حكومةٍ تستدعي صدام النّاس؟
بين القرار والاستقالة ماذا ينتظرنا؟
استقالة الوزراء الشّيعة المرتقبة ليست مجرد انسحابٍ من حكومة، بل هي إعلان انهيار الميثاقية الوطنية.
وإصرار رئيس الحكومة على تعيين بدلاء “فوراً” يُعيد إلى الأذهان مناخات الإقصاء والتّهوّر الّتي لا تُنتج دولةً، بل تُشعل شارعاً.
وفي المقابل، فإنّ أيّ ردّ فعلٍ ميدانيٍّ متهوّرٍ من قبل المقاومة سيُسرّع الانهيار العام، ويُعطي خصومها أوراقاً دولية جاهزة لتصنيفها ضمن خانة “الخطر على الدّولة”.
من سيدفع الفاتورة؟
كالعادة، الشّعب.
ألشّباب العاطل عن العمل.
ألأمّهات في الجنوب والبقاع وطرابلس وبيروت .
ألنّازحون بلا كرامة، والمقيمون بلا أمل.
أمّا السّاسة، فهم دوماً يجيدون الهروب إلى عواصم القرار… أو إلى حصاناتهم الطّائفية.
لا السّلاح وحده يُنقذ لبنان، ولا قرار نزع السّلاح في عزّ العاصفة يُقيم دولة.
ما يُنقذ لبنان هو الاتّفاق على سقفٍ وطنيٍّ جامعٍ يُعيد ترتيب الأولويات، استكمال التّحرير قبل التّفريط بما حمانا، إصلاح الدّولة لا تركيع المقاومة، بناء الجيش وتسليحه لا توريطه في صدامات الدّاخل مع عقد مؤتمرٍ وطنيٍّ جديدٍ يُعيد رسم قواعد الشّراكة، لا شطب طرفٍ لإرضاء الخارج.
لبنان اليوم في أخطر لحظاته، إّما أن ننتصر بالحكمة…أو نسقط جميعاً في فخّ الانتحار الذّاتي.
من يريد بناء وطنٍ، لا يُقصي نصفه، ولا يغامر بنصفه الآخر.