
هل كانت قصتها مؤلمة… فاختارت غيرها؟ حين يختار الإنسان رواية، ويعيشها أمام الناس كأنها له أتابع كثيرًا ما يدور في المشهد العام، لكنني أختار في معظم الأحيان أن أراقب بصمت أُطفئ داخليًا “وضع الدكتورة النفسية”، وأترك أدوات التحليل جانبًا، لا لأني لا أرى، بل لأنني أحتاج للراحة خارج ساعات العمل وغالبًا، لا أعلّق.
لكن هذه المرة، وجدت أن هناك أسئلة تستحق أن تطرَح حين تنسب لنفسك شيئًا لم تصنعه…هل تكذب، أم تبحث عن ذاتك؟جلست شخصية معروفة تتحدث عن لوحة فنية تُعرض على الشاشة.
تحدثت عن الألوان والخطوط والمشاعر. وكأنها كانت هناك فعلًا، لحظة الصنع ثم تبيّن أن اللوحة ليست لها انقسم الناس بين مصدوم، ساخر، ومدافع هل كذبت؟ هل كانت تحاول خداع الجمهور؟ أم أنها ببساطة… صدّقت القصة؟
علم النفس لن يُقدم لك إجابة جاهزة، لكنه سيطرح أسئلة أخرى: لماذا يفعل الإنسان هذا؟ وماذا يكون داخله حين يفعل؟ حين لا تُعطى قصة، تختلق واحدة.
في علم النفس، هناك ما يُعرف بـ”تعويض الهوية” حين يشعر الإنسان أنه بلا حضور، بلا تقدير، لا يُرى، وليس لديه مساحة يُسمع فيها صوته… قد تنشأ بداخله رغبة قوية في أن يُمنح دورًا فإذا ظهرت فرصة لاحتلال موقع الفنان أو المُبدع أو الملهم، يتمسك بها بكل ما لديه، حتى لو لم تكن له هنا، لا تكون النية سرقة، بقدر ما تكون محاولة لإسكات شعور داخلي مزمن بالنقص أو التهميش.
التنافر المعرفي:
كيف يُعاد تشكيل القصة في الذهن توتر داخلي يحدث عندما تتصادم صورة الشخص عن نفسه مع الواقع ولحل هذا التوتر، يعيد الدماغ تشكيل الرواية بطريقة تريح النفس يقنع الشخص نفسه أولًا، ثم يروي القصة للآخرين، ومع التكرار، تصبح مألوفة داخليًا ويبدأ هو نفسه في الإحساس بها وكأنها واقع، وبأنها حقيقية ليس لأنه محتال، بل لأنه لا يستطيع تحمّل حقيقة ألم الفراغ داخله خيالات العظمة: لماذا لا يختار عملاً بسيطًا؟ في مثل هذه الحالات، لا يختار الشخص قصة صغيرة أو عملًا عابرًا لينسبه لنفسه بل يبحث عن شيء لامع، ظاهر.
شيء يقول من خلاله “أنا أستحق أن أكون هنا” فيربط الإنسان نفسه برمز له أثر، لأنه لا يحتمل أن يبقى بلا أثر.
وفي عالمنا… بات كل شيء موثّقًا ما يجعل الأمر أكثر إرباكًا هو أن العالم اليوم موثّق جوجل موجود وسائل التواصل لا تنسى البحث يأخذ ثواني فلماذا ما زال بعض الناس يغامرون بأن تُكشف قصتهم بسهولة؟ لأن الحاجة لأن يكون لك “قصة” تتفوّق أحيانًا على الخوف من انكشافها حين تصبح الحياة عرضًا عامًا في عالم اليوم، تتحوّل حياة البعض إلى عرض مسرحي دائم يصبح السؤال: “كيف أبدو؟” أهم من “ما الذي أفعله؟” ومع الوقت، تتداخل الحقيقة مع الرواية التي صُممت لتبدو جذابة ويصبح الحديث عن شيء لم تعشه، أسهل من الصمت عما عشته فعلًا هذه ليست الحالة الأولى، ولن تكون الأخيرة لكنها تفتح نافذة لفهم شيء نادرًا ما ننتبه له: ما الذي يحدث للإنسان حين يشعر أنه غير مرئي لوقت طويل؟ وإلى أي مدى يمكن أن نتمسك برواية مزيفة فقط لأنها تمنحنا ما لم تمنحه لنا الحياة؟
وماذا بعد؟ هل نُواجه؟ أم نتفهم؟ لا توجد إجابة جاهزة لكن من المهم أن نفرّق بين من يكذب بقصد التلاعب، ومن يصوغ رواية بديلة لأنه لم يُمنح مساحة ليكون نفسه هذا السلوك لا يُبرَّر، لكنه يُفهَم ولا يُعفي من المسؤولية، لكنه يُسلّط الضوء على الإنسان خلف الادّعاء والأقنعة البشرية: من لم يُصفَّق له يومًا، فاختار أن يعيش لحظة التصفيق بصوت مُستعار من لم تُكتب له قصة، فاستعار واحدة ليس بدافع الاحتيال… بل بدافع الحاجة وربما لأن القصة التي لم يعشها، كانت القصة التي حلم بها دومًا.