تحل الذكرى السبعون لتأسيس منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية ، تلك المنظمة التي شكّلت منذ انطلاقها علامة فارقة في تاريخ الحركات التحررية والتضامنية بين شعوب قارتي آسيا وأفريقيا ، وأسهمت بدور محوري في دعم قضايا التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار، وترسيخ قيم السلام والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
يأتي هذا المقال بوصفه شهادة معرفية تستند إلى التفاعل الطويل مع قضايا التضامن الدولي وحركات التحرر الوطني ، ودور المنظمات الشعبية في تشكيل الوعي السياسي لشعوب الجنوب. وتمثل منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية إحدى التجارب التاريخية التي يصعب تناولها بمعزل عن السياق الذي تشكّل فيه الوعي التحرري العربي والأفروآسيوي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
يعود جذور منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية إلى مؤتمر باندونغ الذي عقد في إندونيسيا بين 18 و24 أبريل 1955، حيث اجتمع ممثلو 29 دولة أفروآسيوية ليعلنوا عن رفض الاستعمار والتمييز العنصري ، ويضعوا الأسس للدبلوماسية الجنوبية.
كان هذا المؤتمر الذي حضره قادة أمثال جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو، مقدمة للحركة غير المنحازة وأدى إلى إنشاء هيئات شعبية مثل AAPSO لتعزيز التضامن على المستوى الجماهيري.
في الفترة من 26 ديسمبر 1957 إلى 1 يناير 1958، عقد المؤتمر الأول لحركة التضامن في القاهرة بحضور آلاف المندوبين من آسيا وإفريقيا ليؤسس المنظمة رسمياً كمنظمة غير حكومية جماهيرية ، تم تحديد القاهرة كمقر دائم وأنشئت سكرتارية عامة لتنسيق الجهود ، تغير اسمها إلى الشكل الحالي في المؤتمر الثاني بكوناكري في غينيا عام 1960 ، كانت هذه الخطوة رد فعل على التقسيم البارد للعالم بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي ، حيث سعى الشعوب الأفروآسيوية إلى طريق ثالث يعتمد على الاستقلال والتضامن.
لقد تأسست المنظمة في مناخ دولي اتسم بتفكك النظام الاستعماري التقليدي وبروز حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا عقب مؤتمر باندونغ 1955، الذي وضع الأسس الفكرية والسياسية للتعاون بين دول الجنوب¹.
وقد مثّل إنشاء المنظمة انتقالًا من التنسيق الرسمي بين الدول إلى التنظيم الشعبي العابر للحدود ، حيث جمعت في إطارها النقابات والاتحادات المهنية والمنظمات الأهلية والمثقفين بوصفهم فاعلين أساسيين في معركة التحرر والاستقلال.
من خلال متابعتي لمسيرة المنظمة، يتضح أن رؤيتها انطلقت من قناعة مركزية مفادها أن التحرر السياسي لا يكتمل دون تحرر اقتصادي وثقافي.
ان أهداف المنظمة ترتكز على عشر مبادئ أساسية من باندونغ بما في ذلك احترام السيادة الوطنية ، عدم التدخل في الشؤون الداخلية ، والتعاون المتبادل بين الشعوب ، تهدف AAPSO إلى تعزيز التضامن بين شعوب آسيا وإفريقيا ، ودعم حركات التحرر الوطني ، ومكافحة الاستعمار، التمييز العنصري ، والسلاح النووي.
في عصرنا الحالي توسعت أهدافها لتشمل العدالة التصالحية للشعوب الأفريقية بما في ذلك الاعتذارات الرسمية ، التعويضات ، والدعم النفسي ، بالإضافة إلى التركيز على الطاقة النظيفة وإعادة الإعمار في الدول المنهارة.
وعليه نستطيع القول ان المنظمة تبنّت أهدافًا واضحة أبرزها:
دعم حركات التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار.
الدفاع عن حق الشعوب في تقرير المصير.
مناهضة العنصرية والفصل العنصري.
تعزيز التعاون الثقافي والفكري بين شعوب أفريقيا وآسيا².
وقد انعكست هذه الأهداف في برامج عملية شملت المؤتمرات الدولية ، والبيانات التضامنية ، والأنشطة الثقافية ، وتبادل الوفود الشعبية.
كمنظمة جماهيرية، تضم AAPSO أكثر من 90 لجنة وطنية في آسيا وإفريقيا، ولجاناً مشاركة في أوروبا وأمريكا اللاتينية، مما يجعلها جسراً حياً للتعاون الجنوبي-جنوبي. قادتها البارزون مثل محمد أنور السادات الذي تولى الرئاسة من 1961 إلى 1969، ويوسف السباعي أميناً عاماً، يعكسون التزامها بالقيادات الثورية.
ومن الإنصاف فانه لا يمكن تناول تجربة منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية دون الاشارة الي الدور المصري المحوري. فقد مثّلت القاهرة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي مركزًا عالميًا لحركات التحرر في ظل قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي آمن بدور مصر التاريخي في محيطها الأفروآسيوي³ ، لقد استضافت مصر المقر الرئيسي للمنظمة ، ووفّرت لها البيئة السياسية والفكرية الداعمة ، وأسهمت النخب المصرية السياسية والثقافية في بلورة خطابها التحرري. ومن منظور ذاتي ، فإن هذا الدور يعكس تلازمًا واضحًا بين السياسة الخارجية المصرية آنذاك وبين العمل الشعبي الدولي كأداة داعمة لحركات الاستقلال وعدم الانحياز.
ومما لا شك فيه ان المنظمة في هذه الحقبة ارتبطت بعدد من القيادات السياسية والفكرية من آسيا وأفريقيا، ممن لعبوا أدوارًا مركزية في حركات التحرر الوطني. كما تعاونت مع رموز عالمية مناهضة للاستعمار والعنصرية ما منحها بعدًا دوليًا يتجاوز الإطار الإقليمي⁴.
وفي السياق المصري، شارك عدد من السياسيين والمثقفين والنقابيين في أنشطة المنظمة وأسهموا في تمثيل قضايا العالم النامي في المحافل الدولية بما عزز من حضور المنظمة وفاعليتها.
وخلال النصف الثاني من القرن العشرين لعبت المنظمة دوراً حاسماً في دعم حركات الاستقلال في إفريقيا وآسيا. ساهمت في تحرير شعوب المغرب العربي ، ودعمت الشعب الفلسطيني ، ووقفت إلى جانب إندونيسيا في نزاعها مع هولندا حول إيريانا الغربية. عقدت خمسة مؤتمرات رئيسية بين 1957 و1972، شملت الثالث في تنزانيا (1963) ، والرابع في غانا (1965) ، مما عزز الضغط الدولي ضد الاستعمار البرتغالي والتمييز العنصري في جنوب إفريقيا.
في الستينيات أطلقت حملات ضد التجارب النووية ، ودعمت كفاح فيتنام والبلدان العربية حتى اليوم تحقق إنجازات مثل رعاية مؤتمر “الهيدروجين في إفريقيا” الثالث في مصر (أكتوبر 2025)، الذي يفتح آفاقاً لتصدير الطاقة النظيفة إلى أوروبا ، ومشاركتها في قمة الحركة غير المنحازة في كمبالا (يناير 2024). كما أشادت بقرار الأمم المتحدة بشأن العدالة التصالحية للأفارقة في سبتمبر 2025.
كما احتلت القضية الفلسطينية موقعًا ثابتًا في خطاب وممارسات منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية بوصفها قضية تحرر وطني وحقوق إنسان.
وقد عملت المنظمة على تدويل القضية وكشف طبيعة الاحتلال الاستيطاني ، وحشد الدعم الشعبي والسياسي لحقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير⁵.
ولكن ومع نهاية الحرب الباردة، واجهت المنظمة تحديات بنيوية نتيجة تغير طبيعة النظام الدولي وتراجع الزخم الجماهيري للحركات الشعبية التقليدية ، غير أنها سعت إلى التكيّف مع المتغيرات من خلال الانفتاح على قضايا جديدة مثل العولمة غير العادلة ، والتنمية المستدامة ، وحقوق الإنسان ، والعدالة المناخية⁶.
رغم التحديات الأخيرة مثل وفاة الأمين العام نوري عبد الرزاق حسين في مارس 2024، تستمر المنظمة في أنشطها الديناميكية وفي مايو 2025 استضافت برنامج “جمعية ناصر للقيادة الدولية”، حيث زار المندوبون متحف جمال عبد الناصر لمناقشة السيادة والتضامن. كما شكلت لجنة تحضيرية للمؤتمر العام في مصر (أكتوبر 2025) تم اختيار السفير محمد العرابي رئيسا ً والدكتور محمد احسان سكرتيراً عاماً ، وبرئاسة السفير محمد العرابي تمّ الاشارة لتعزيز التعاون في الرياضة ، السياحة ، والمشاريع الخضراء في سيناء.
في عالم اليوم، تواجه AAPSO الاستعمار الاقتصادي والتدخلات الجيوسياسية محافظة على دورها كصوت للعالم الثالث ، مشاركتها في ورش عمل مثل “التعاون البريطاني-الياباني للإعادة الإعمار” (يناير 2026) تؤكد التزامها بالاستدامة.
ومع اقتراب الذكرى السبعين ، تذكرنا AAPSO بأن التضامن ليس مجرد كلمة ، بل سلاح ضد الظلم في زمن التحالفات الجديدة تبقى مبادئ باندونغ دليلاً لعالم متعدد الأقطاب يعتمد على العدالة والتعاون ، كما قال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فإن “التضامن هو قوتنا” وهذه المنظمة تثبت ذلك يوماً بعد يوم دعونا نحتفل بها ليس تاريخياً فحسب بل كأداة لمستقبل أفضل لشعوبنا.
وفي الختام فإن استعادة تجربة منظمة تضامن الشعوب الأفروآسيوية بعد سبعين عامًا على تأسيسها ، في إطار شهادة معرفية وسيرة فكرية، تمثل محاولة لفهم أحد المسارات التاريخية التي أسهمت في تشكيل وعي شعوب الجنوب. ورغم تغير السياقات الدولية، فإن قيم التضامن، والاستقلال، والعدالة، التي قامت عليها المنظمة، لا تزال صالحة لاستلهامها في مواجهة تحديات الحاضر وبناء مستقبل أكثر إنصافًا وتوازنًا.








