و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع
موقع الصفحة الأولى

 ربما لا تصح المبالغة فى جدوى الموتمر الدولى الأخير فى نيويورك عن "حل الدولتين" وإقامة الدولة الفلسطينية ، ولا يصح الإنكار كذلك ، فنحن بصدد صراع تاريخى طويل المدى ، قد تكون المئة عام الأخيرة هى المدى الأظهر فيه ، منذ "وعد بلفور"عام 1917 إلى إقامة كيان الاغتصاب الصهيونى عام 1948 ، ومن حروب العرب مع كيان الاحتلال إلى الانتفاضتين الفلسطينيتين الأحدث ، وإلى "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة الأمريكية "الإسرائيلية" الجارية فى "غزة" ، وقد كان لافتا تلويح رئيس الوزراء البريطانى "كير ستارمر" بعزمه الاعتراف بدولة فلسطين خلال الانعقاد السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر المقبل ، مع أن بريطانيا ـ التى كانت عظمى ـ هى صاحبة الدور الأكبر فى إقامة هذه "الإسرائيل" وفى صنع النكبة الفلسطينية ، تلتها فرنسا التى لعبت الدور الأكبر فى إقامة المشروع النووى "الإسرائيلى" ، وقد سبقت فرنسا شريكتها البريطانية فى إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية ، بينما أمريكا التى ورثت الدورين البريطانى والفرنسى ، لا تزال تعاند مع ربيبتها "إسرائيل" فى رفض إقامة أى كيان فلسطينى مستقل على حدود الرابع من يونيو 1967 ، وعلى مساحة لا تتجاوز 22% من أرض فلسطين التاريخية زمن الانتداب البريطانى .
  وصحيح ، أن مبدأ إقامة هذه الدولة الفلسطينية يحظى باعتراف عالمى ساحق ، سجلته قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وقد قاربت نحو الألف قرار ، أيدتها 147 دولة من إجمالى 193 كيانا معترفا به على سطح المعمورة ، قد تضاف إليها 20 دولة أخرى قبل ومع اجتماع سبتمبر المقبل ، الجديد فيها انضمام دول من المعسكر الغربى لنصرة الحق الفلسطينى فى حده الأدنى المطروح اليوم ، وقد سبقت وتلحق أيرلندا وأسبانيا والنرويج وسلوفينيا والبرتغال وكندا وبلجيكا ولوكسمبورج وسان مارينو ومالطا وأيسلندا واستراليا وغيرها ، إضافة إلى تشقق التأييد الغربى التلقائى الأعمى لكيان الاحتلال ، وتصاعد تمرد أعضاء بارزين فى "الاتحاد الأوروبى" ، وعلى نحو ما جرى فى "هولندا" ، وتأكيد عشر دول بين 27 دولة عضو فى الاتحاد الأوروبى ، أنها تؤيد وقف اتفاق الشراكة التجارية التفضيلية مع "إسرائيل" ، بينما لا تزال "ألمانيا" الأقوى اقتصاديا تعارض التوجه الأوروبى الجديد ، ولأسباب كثيرة ، ربما أهمها خلط الأوراق ، والوقوع فى أسر "عقدة الذنب" التاريخى العائد لزمن هولوكست "هتلر" لليهود ، وبما جعل ألمانيا ـ بعد هتلر ـ بقرة حلوبا للحركة الصهيونية ، دفعت وتدفع لكيان الاحتلال مئات المليارات من الدولارات ، وتحتل المرتبة الثانية فى منح وتصدير السلاح للكيان بعد أمريكا ذاتها ، وإن كان الرأى العام الألمانى يضيق بسياسة حكوماته الذيلية تجاه "إسرائيل" ، وعلى نحو ما نشهده فى شوارع مدن ألمانيا الكبرى والصغرى من مظاهرات شعبية غاضبة ، وصرخات ضمائر حية ضد حرب الإبادة والتهجير الجارية للفلسطينيين فى "غزة" والضفة والقدس ، ومظاهرات الألمان امتداد طبيعى لطوفان غضب الرأى العام فى عواصم الغرب الكبرى ، وعبوره "المحيط الأطلنطى" إلى كندا وأمريكا نفسها ، وفى بلاد ديمقراطية التكوين السياسى ، تأتى حكوماتها بالانتخابات الدورية ، ويضطر بعضها إلى مسايرة الرأى العام ، حتى وإن جرى العدوان عليه وقهره أحيانا ، كما جرى ويجرى فى أمريكا تحت إدارة "دونالد ترامب" ، لكن الاتجاه العام لنصرة الحق الفلسطينى يبدو صاعدا بانتظام منذ "طوفان الأقصى" ، الذى تلته حرب الإبادة والعذاب الأسطورى للشعب الفلسطينى ، وصمود مقاومته المذهلة على مدى ما يقارب سنتين إلى اليوم ، صعد فيها الغضب الشعبى الغربى إلى أعلى ذراه ، وبالذات فى أوساط الأجيال الجديدة ، التى بدت "فلسطينية" الهوى مقابل "إسرائيلية" الآباء والأجداد ، ورفعت أعلام و"كوفيات" وهتافات "فلسطين حرة" فى كل مكان ، وبلغ تأثيرها فى المشهد الشعبى الغربى حدودا بعيدة ، ففى آخر استطلاع رأى أمريكى ، أبدى 60% من الأمريكيين تأييدهم للحق الفلسطينى ووقف حرب الإبادة ، بينما تراجعت شعبية "ترامب" نفسه إلى 40 بالمئة ، وبدا التحول الدرامى الهائل فى الغرب من آيات وتجليات وبركات المقاومة الفلسطينية بكل المعانى ، فقد ولدت ونمت الظاهرة الجديدة بالتوازى مع ماجرى فى فلسطين وفى "غزة" بالذات ، وبدا ذلك كله انقلابا تاريخيا فى الرأى العام الغربى ، فالحركة الصهيونية غربية المنشأ فى الأساس ، ووثيقة الصلة العضوية بحركة الاستعمار والإمبريالية الغربية ، وانتقلت رعاية الكيان الصهيونى من بريطانيا إلى أمريكا بعد "حرب السويس" 1956 ، التى قطعت ذيل "الأسد البريطانى" وأنهت هيمنته الكونية ، وكان الأمر الطبيعى فى السياق الغربى حكومات وشعوبا ، أن تكون الرواية الصهيونية هى الغالبة بل السائدة لعقود ، وأن يجرى التغنى بمعجزة "إسرائيل" قاعدة الغرب المتقدمة فى المنطقة العربية ، وفى أوقات سبقت ، كما فى الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات من القرن العشرين ، كان تأييد الحق الفلسطينى يكاد يكون محصورا فى جماعات مثقفين تقدميين وأحزاب يسارية راديكالية قريبة ومناصرة لحركات التحرر العربى ، وبعد انهيارات موسكو الشيوعية أوائل التسعينيات ، تداعى تأثير وحضور جماعات اليسار الراديكالى ، وبالتوازى مع انحسار المشاركة العربية فى نصرة الحق الفلسطينى ، انتقلت المقاومة الفلسطينية إلى أرضها بعد خفوت الصوت العربى العام ، وتوالت الانتفاضات الفلسطينية الأولى والثانية وصولا إلى "طوفان الأقصى" صباح السابع من أكتوبر 2023 ، وقبلها مع الخذلان العربى للفلسطينيين بعد حرب أكتوبر 1973 وتوابعها المعاكسة فى المغزى ، كانت تنشأ وتتطور ظاهرة جديدة ، كان الفلسطينيون وحدهم ـ باستثناء "حزب الله" اللبنانى ـ فى ميادين الانتفاض والمقاومة ، وكان الفلسطينيون فى الشتات الغربى وحدهم تقريبا فى نصرة شعبهم ، وكانت جماعات نشطة من الفلسطينيين تتزايد أدوارها فى نشر الرواية الفلسطينية المضادة للسردية "الإسرائيلية" ، والمتحدية لسطوة "اللوبيهات" الصهيونية المسيطرة فى عواصم الغرب الكبرى ، ونجح الجهد الفلسطينى وبعض العربى الشعبى المهاجر ، وجذب شرائح هامشية من الرأى العام الغربى ، وكانت تلك خميرة أولية مناسبة ، وجدت فى لحظة "طوفان الأقصى" وما تبعها مددا فياضا ، مع التطور الطفرى فى وسائط التواصل الاجتماعى ، وكثافة الحوادث الدموية المنقولة لحظيا بالصوت والصورة ، وكل ذلك قاد إلى تحول مثير غير مسبوق ، انتقلت معه صرخة "فلسطين حرة" من الهامش الغربى إلى المتن الفعال ، وصارت "الرواية الفلسطينية" منافسة مزاحمة للرواية الصهيونية فى الوجدان الغربى ، وجرى التحول الذى ضغط على سياسة حكومات غربية متزايدة العدد ، وظهر الميل الغربى المتزايد للاعتراف بالحق الفلسطينى كثمرة مباشرة لكفاح المقاومة وغرس الدم الفلسطينى ..

 

مؤتمرات الاعتراف بدولة فلسطين 


  ومع التسليم بأن طريق التحرير لايزال طويلا وشاقا ، فإن مؤتمرات الاعتراف بدولة فلسطين لا تخلو من أثر إيجابى ، صحيح أن دولة فلسطين لن تقوم فى الخمسة عشر شهرا المقبلة كما يطمح البيان الختامى لمؤتمر نيويورك الأخير ، والسبب ببساطة ، أن تعهدات التنفيذ من قبل ما يسمى المجتمع الدولى ، لا تملك الاستعداد ولا القوة الجبرية اللازمة لتحرير الأراضى وإنهاء الاحتلال ، وعلينا أن نضع الأمر فى مكانه الذى لا يبارحه ، فكسب الرأى العام الدولى مفيد جدا لنصرة الحق الفلسطينى ، وعلى نحو سياسى رمزى الطابع غالبا ، لكن التحرير الفعلى يظل رهنا بتطور المقاومة الفلسطينية ، وبكل صورها الشعبية السلمية والمسلحة ، وهو ما يجعل بعض نصوص البيان الختامى لمؤتمر نيويورك خارج النص وفاقدة الصلاحية ، فلا يمكن ـ مثلا ـ لجماعات المقاومة تسليم سلاحها قبل القيام الفعلى للدولة ، ولا تستساغ إدانة البيان إياه لهجوم السابع من أكتوبر الفلسطينى ، فالحق فى المقاومة مقدس ومسنود ومكفول بشرائع السماء والقوانين الدولية ، وما دام ثمة احتلال فلا بد من المقاومة ، والمقاومة هى التى تصنع التعاطف الدولى وليس العكس ، وفى التاريخ الفلسطينى الحديث والمعاصر ، نجحت مرحلة مقاومة "فتح" وأخواتها فى كسب تأييد دولى من الصين وروسيا وشعوب ودول الجنوب العالمى ، ثم أضافت موجة مقاومة "حماس" وأخواتها بالذات بعد "طوفان الأقصى" وتوابعه ، وكسبت مددا جديدا مناصرا للحق الفلسطينى ، وفى خلخلة حائط التأييد الغربى الأعمى لكيان الاحتلال وحروبه الهمجية ، ولا تزال هناك أشواط مضافة ، لا تفيد فيها مناشدات عربية بائسة لحكومة الاحتلال فى تل أبيب ولا لحكومة "إسرائيل" العليا فى واشنطن ، فلسنا بصدد سوق خيرى وتسول للحقوق ، وقد فرضوا ويفرضون الاحتلال بالقوة على الشعب الفلسطينى والشعوب العربية المجاورة ، والحقوق لا تعود بالاستجداء بل بتغيير موازين القوى فى الميدان ، وحتى فى التفاوض ، فلا يكسب أحد فوق الموائد بأبعد مما تصل إليه مدافعه ، ولم تملك أى حركة مقاومة وتحرير فى التاريخ ما يملكه عدوها من سلاح ، ووظيفة المقاومة هى إنهاك العدو تدريجيا ودفعه للتراجع فى النهاية .
  وبالجملة ، لا تقوم دولة فلسطين بمجرد الاعتراف الدولى بالحق فى إقامتها ، بل تقوم الدولة حين تتحرر أرضها ، وما من سبيل لتحرير بغير المقاومة أولا وأخيرا.
 

تم نسخ الرابط