
في زمن باتت فيه الكلمات الطيبة تُعادل الأمنيات، جاءت استجابة وزارة التربية والتعليم لتعيين معلمي الحصة كنسمة ربيعٍ تُنعش قلوبًا طال بها الانتظار، وتمنح الأمل لآلاف المعلمين الذين صبروا، وأخلصوا، وتسلحوا بالإرادة رغم قسوة الظروف وتقلبات الواقع، الحق يُقال، وإن كنتُ لا أعرف الوزير محمد عبداللطيف معرفة شخصية أو عن قرب، إلا أن متابعتي الدقيقة لجهوده خلال الفترة الأخيرة تُشعرني بأنه رجل يحاول بصدق النهوض بمنظومة التعليم، ومعالجة أوجه الخلل المتراكمة، رغم ما يواجهه من تحديات جسيمة وتعقيدات واقعية، وأكاد أجزم أن الخبرة العملية في مثل هذه الملفات، كثيرًا ما تكون أنفع من النظريات المجردة والكلام الأكاديمي، فالتجربة هي الميزان الحقيقي، وهي من تفرز القدرة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، وهو – كما بدا لي من قراراته وتحركاته – رجل متمرس، واسع الاطلاع، يُدرك جيدًا كيف توضع الأمور في نصابها الصحيح، بهدوء وثبات، دون صخب أو ادعاء، وهذا في ذاته يُحسب له، ويُنبئ بأن القادم يحمل في طيّاته خيرًا.
لعلني أسجّل هنا، بكل اعتزاز، أنني كنتُ ممن حملوا هذه الرسالة بإخلاص، وسعيت لإيصال صوت معلمي الحصة، وخاصة أولئك السيدات اللاتي أفنين أعمارهن بين جدران المدارس، يعلمن ويربين، وهن قابضات على الأمل كقابضات على الجمر، لا يطلبن إلا الاعتراف والإنصاف، وقد كان مقالي الذي نشرته حينها، تعبيرًا عن هذه الآمال النبيلة، وعن القلوب التي لم تيأس رغم طول الطريق رابط المقال للإطلاع ( معلمو الحصة سلاح الوزارة وقت الأزمات وضحاياها عند التعيين) على صفحتي الشخصية على الفيس بوك https://2u.pw/JB9X3
وما أسعدني اليوم وأنا أراه قد تجاوز حاجز 2 مليون مشاهدة على الصفحة، ليؤكد أن الكلمة الصادقة حين تخرج من القلب، فإنها تبلغ القلوب وتُحدث الأثر، وأن قضايا الناس – إذا ما حُمِلت بضمير حي – لا بد أن تجد من ينصفها هؤلاء المعلمون – على امتداد سنوات – مازالوا جنودًا في ساحات التعليم، يدخلون الفصول بابتسامةٍ تُخفي ما في القلوب من قلق، ويغرسون في نفوس التلاميذ بذور العلم والانضباط، دون أن يلتفتوا إلى العقود المؤقتة، أو الأجور الزهيدة، أو المجهول الذي ينتظرهم، كانوا يعرفون أن رسالتهم أسمى من انتظار المقابل، ومع ذلك، ما فقدوا الحلم يومًا بأن يأتي القرار الذي يُعيد إليهم الاعتبار.
وها هو الحلم يُصبح واقعًا، بفضل استجابة واعية من وزارة التربية والتعليم، وبتوجيه كريم من القيادة السياسية التى أثبتت أن الأذن الواعية لصوت الميدان، هي أقرب طريق إلى تحقيق العدالة، فالشكر كله للقيادة السياسية التي حملت هم المعلمين بصدق، وتعاملت مع القضية من منطلق وطني وإنساني، يدرك أن كرامة المعلم من كرامة الوطن، وأن الاستثمار الحقيقي في التعليم يبدأ من تمكين المعلم لا تهميشه ولأن الإنصاف لا يكتمل إلا بشموله، فإننا نأمل أن تمتد يد الرعاية والحكمة لمعالجة بعض التحديات المتبقية، وفي مقدمتها مسألة السن، التي ينبغي ألا تكون قيدًا على من أفنوا زهرة أعمارهم في الميدان، بل يجب أن يُنظر إليهم باعتبارهم خبرات ثمينة لا تُقدّر بسنوات العمر، وإنما بما يحملونه من علم وتجربة.
كما نأمل أن يُنظر بعين العدل والانصاف وروح القانون إلى من لا يزالون في طور الحصول على الدبلوم التربوي والحاصلين على إفادة بالدراسة، وهم لا يقلون حماسة أو كفاءة عن غيرهم، ولكن ضيق الوقت أو ظروفهم المادية أحياناً حالت دون استكمال هذا الشرط حتى الآن، ومنحهم الفرصة مع تحديد آجال مناسبة لاستكمال المؤهل سيكون خطوة عادلة ومتزنة إن معلمي الحصة، وقد صبروا، واجتهدوا، وصدقوا، يستحقون أكثر من التعيين، يستحقون الاعتراف الكامل بدورهم، وفتح مسارات التنمية المهنية أمامهم، فهم ليسوا بديلاً مؤقتًا، بل ركنٌ أصيل في منظومة التعليم.
إن معالجة العقبات التي تواجه التعليم ليست مجرد استحقاق وظيفي أو إجراء إداري، بل هي في جوهرها أهم باب تخاض من خلاله معركة الوعي، وأخطر معركة تواجهها الأوطان في زمن تتشابك فيه التحديات، وتتغير فيه ملامح المعرفة والقيم، والتعليم الحقيقي هو السلاح النبيل الذي يحصّن العقول، ويرتقي بالمجتمعات، ويعزز الانتماء الوطني، ومن الإنصاف أن نُشيد بأن الدولة المصرية في هذه المرحلة تمتلك بعد نظر حقيقي في هذا الملف، وتتحرك برؤية استراتيجية تستهدف البناء من الجذور، لا من القشور، وتؤمن أن نهضة الأمم لا تُبنى إلا على أساس من تعليم راقٍ، ومعلم كريم، وبيئة معرفية عادلة ومستقرة.