
في قلب كل مجتمع، تكمن الأسرة كنواة أساسية، وقانون الأحوال الشخصية هو الميثاق الذي ينظم إيقاع هذه النواة منذ لحظة تكوينها وحتى في أصعب لحظاتها عند الانفصال. واليوم، تقف مصر على أعتاب تغيير تشريعي هو الأهم منذ عقود، مع طرح تعديلات جديدة على قانون الأحوال الشخصية، مما يثير نقاشاً واسعاً لا يقتصر على أروقة المحاكم، بل يمتد إلى كل بيت مصري. فما هي الفلسفة وراء هذه التعديلات، وكيف تسعى لتحقيق التوازن الصعب بين متطلبات العصر وثوابت المجتمع؟
بصفتنا محامين نعيش نبض الواقع العملي لهذه القضايا، نرى أن التعديلات المقترحة لا تهدف فقط إلى "تغيير" نصوص، بل إلى "إصلاح" منظومة بأكملها، وتقوم على عدة محاور جوهرية:
1- "الاستضافة" بدلاً من "الرؤية": نقلة نوعية في علاقة الأب بأبنائه
لعل أبرز ما يميز التعديلات الجديدة هو استبدال نظام "الرؤية" الحالي، الذي يقتصر على بضع ساعات أسبوعياً في مكان عام، بنظام "الاستضافة" الذي يسمح للأب غير الحاضن باصطحاب أطفاله للمبيت معه لمدة يوم أو يومين.
• منظور قانوني: هذا التحول ليس مجرد تغيير في المصطلحات، بل هو اعتراف بأن العلاقة بين الأب وأبنائه ليست مجرد "رؤية" عابرة، بل هي "معايشة" و"مشاركة" في الحياة اليومية. إنه يهدف إلى الحفاظ على الصحة النفسية للطفل الذي يحتاج إلى وجود كلا الوالدين بشكل فاعل في حياته، ويقلل من شعور "العقاب" الذي كان يصاحب نظام الرؤية القديم.
• التحدي: يكمن التحدي في وضع ضوابط صارمة تضمن مصلحة الطفل الفضلى، وتمنع استخدام الاستضافة كوسيلة للكيد أو الضغط على الطرف الحاضن.
2- توثيق الطلاق: حماية لحقوق المرأة وإنهاء لـ "الطلاق الشفهي"
تقترح التعديلات عدم الاعتداد بالطلاق الذي يقع شفهياً أمام الزوجة فقط، واشتراط توثيقه أمام الموثق المختص (المأذون) لاعتباره واقعاً ومنتجاً لآثاره القانونية، خاصة فيما يتعلق باحتساب مدة العدة وحقوق الزوجة.
• منظور قانوني: هذا النص يهدف إلى القضاء على حالة الفوضى التي يخلقها الطلاق الشفهي، حيث تجد المرأة نفسها معلقة، لا هي بالمتزوجة ولا هي بالمطلقة، وتضيع حقوقها في الميراث والنفقة بسبب عدم قدرتها على إثبات تاريخ الطلاق الفعلي. التوثيق هنا ليس تعقيداً للإجراءات، بل هو "حماية" للحقوق وتثبيت للمراكز القانونية.
3- صندوق دعم الأسرة المصرية: آلية مالية لضمان التنفيذ
من أهم المستجدات هو إنشاء "صندوق دعم الأسرة المصرية" الذي يهدف إلى ضمان تنفيذ أحكام النفقات والأجور في حالة تعثر أو امتناع الزوج عن السداد.
• منظور قانوني: هذه الخطوة هي اعتراف بأن المشكلة الكبرى لم تكن في "استصدار" أحكام النفقة، بل في "تنفيذها". يعمل الصندوق كشبكة أمان مالي تضمن للمرأة والأطفال الحصول على احتياجاتهم الأساسية بشكل فوري، ثم يقوم الصندوق بتحصيل هذه المبالغ من الزوج الممتنع بكافة الطرق القانونية. إنه يحول عبء "المطاردة" من على كاهل الزوجة إلى كاهل مؤسسة تابعة للدولة.
4- ترتيب الأب في الحضانة: إعادة نظر في الأولويات
تطرح التعديلات فكرة تقديم ترتيب الأب في حضانة أطفاله (ليكون في المرتبة الثانية بعد الأم مباشرة)، متقدماً على أم الأم.
• منظور قانوني: هذا التعديل يثير جدلاً واسعاً، لكن فلسفته تقوم على أن الأب هو الأصل، وأن بقاء الطفل مع والده (في حال عدم وجود الأم) قد يكون أولى من انتقاله إلى الجدة، لما في ذلك من حفاظ على نسب الطفل واستقراره في محيطه العائلي المباشر. يظل المعيار الذهبي هنا هو "مصلحة المحضون الفضلى"، والتي سيترك تقديرها للقاضي في كل حالة على حدة.
الخاتمة: نحو قانون أسرة عصري وعادل
إن تعديلات قانون الأحوال الشخصية ليست مجرد نصوص قانونية جافة، بل هي محاولة جادة من الدولة المصرية لمواجهة تحديات الواقع، وحماية كيان الأسرة، وتحقيق توازن دقيق بين حقوق كل أطراف العلاقة: الزوج، الزوجة، والأهم من ذلك كله، الأطفال.
قد لا تكون هذه التعديلات مثالية، وقد تحتاج إلى مزيد من الحوار المجتمعي والنقاش القانوني لضبط صياغاتها النهائية، لكنها بلا شك خطوة جريئة وضرورية على الطريق الصحيح نحو قانون أسرة يليق بمصر الجديدة؛ قانون يحمي الضعيف، ويردع المتعسف، ويضع مصلحة الطفل فوق كل اعتبار.