لم يعد السؤال: لماذا لا يأتي الشباب إلى المجلس الأعلى للثقافة؟ سؤالًا بريئًا أو صالحًا للتداول، بل صار سؤالًا متأخرًا، يُطرح بعد أن غادر الشباب القاعة، وأغلقوا الباب وراءهم بهدوءٍ قاس، السؤال الحقيقي، الأكثر إيلاما وصدقا، هو : لماذا يشعر الشباب أن المجلس الأعلى للثقافة لا يأتي إليهم أصلًا؟ لماذا يبدو كيانا يقف في مكانه، ينتظر العالم أن يعود إلى سرعته القديمة، بينما العالم— والشباب في قلبه — يمضي دون التفات؟.
الشباب اليوم لا يكرهون الثقافة، ولا يفرون من المعرفة، ولا يعادون الفن، هذه تهمة كسولة تريح المؤسسة أكثر مما تفسّر الواقع، الحقيقة أنهم يتركون المنصة الرسمية حين تتحول الثقافة فيها إلى طقس بيروقراطي بارد: ندوات تتشابه حتى تفقد أسماءها، وجوه تتكرر حتى تمحو الدهشة، ولغة خشبية تتحدث عن الشباب كما لو كانوا فكرة مؤجلة أو بندًا في بيان، لا كائنات حية تفكر الآن، وتغضب الآن، وتبحث عن معنى الآن.
في المشهد العام، يبدو المجلس الأعلى للثقافة كأنه يخاطب صورة قديمة عن المجتمع، صورة متحجرة لا تتحرك إلا بإذن، جمهور ثابت، قاعة ثابتة، جدول محفوظ، ومفردات لم تتغير رغم تغير العالم، في المقابل، يتحرك الشباب في مساحات مفتوحة، يصنعون ثقافتهم على المنصات الرقمية، في الفنون الجديدة، في أشكال سرد لم تعترف بها المؤسسات بعد، وفي لغة الحياة اليومية التي تنبض بالأسئلة والشك والتمرد، لا في لغة البيانات والخطب الرسمية.
المشكلة ليست في هيبة المؤسسة، بل في جمودها، الثقافة التي لا تتجدد تتحول، مهما علت مكانتها، إلى متحف بلا زوار، الشباب لا يهربون من العمق ولا من الفكر الجاد، بل يهربون من مؤسسات تصادر حقهم في التجريب، وتفرض عليهم مدخلًا واحدًا للثقافة: باب باهتا، وكأن الثقافة امتحان سلوك لا مغامرة معرفة.
ومع الوقت تتسع فجوة الثقة، حين يشعر الشاب أن الفعالية ليست له، وأن الأسئلة تُقابل بالتحفظ، وأن المشاركة شكلية لا تغيّر شيئا، يصبح الانسحاب فعلًا منطقيًا لا تمردًا مجانيًا، العزوف هنا ليس كسلًا، بل تصويت صامت ضد الإقصاء، وضد تحويل الثقافة إلى نادي نخبة يتبادل أعضاؤه الحديث مع أنفسهم.
في العالم، لم تقف الدول عند عتبة الشكوى، أدركت أن الشباب لا يُجذبون بالخطاب الوعظي ولا بالنداء الأخلاقي، بل بسياسات عملية تعترف بهم شركاء، فرنسا، مثلا، حين أطلقت Pass Culture ، لم تكتفِ بالشعار، بل وضعت ميزانية مباشرة في يد الشباب، الأرقام الرسمية تقول إن 84% من الفئة العمرية بين 18 و20 عامًا استخدموا هذا النظام، وأن أكثر من 4.2 مليون شاب سجّلوا منذ 2019.
لكن الأهم في التجربة الفرنسية ليس النجاح فقط، بل الاعتراف بالقصور: فالتأثير كان أضعف بين الشباب الأكثر ابتعادًا عن الثقافة، ولم تتجاوز نسبة المستفيدين من الطبقات العاملة 68%، كما أن الكتب استحوذت على الحصة الأكبر من الإنفاق، بينما لم تتجاوز نسبة حجز العروض الحية غير الموسيقية 7%. فرنسا فهمت درسًا قاسيًا: المال يفتح الباب، لكنه لا يكفي دون وساطة ثقافية ذكية.
ألمانيا سارت في المسار نفسه عبر Kulturpass، لكنها راهنت على البساطة وسهولة الوصول، خلال أقل من ستة أشهر في عامه الأول، سجّل أكثر من 285 ألف شاب، وحقق البرنامج عائدًا تجاوز 23.5 مليون يورو لقطاع الثقافة، مع أكثر من 1.18 مليون استخدام فعلي، الرسالة كانت واضحة: حين تكون العلاقة مباشرة وسهلة، يستجيب الشباب، ولا ينتظرون مؤسسة جالسة على مقاعد قاعة صامتة.
إسبانيا بدورها حولت الثقافة إلى سوق حيّ منظم، عبر Bono Cultural Joven أكثر من 911 ألف عملية شراء، وإنفاق يقارب 32.9 مليون يورو في نحو 3 آلاف جهة مشاركة، مع توزيع واضح بين الفنون الحية والمنتجات الثقافية والرقمي. هنا لم تعد الثقافة شعارًا، بل قرارًا يوميًا سهلًا، لأن الدولة أزالت عائق التكلفة ووضعت إطارًا للتنوع.
أما إنجلترا، فاختارت طريقًا أكثر بساطة وصرامة: القياس. في عام 2023/2024، شارك 91% من البالغين في نشاط فني واحد على الأقل خلال 12 شهرًا، وبلغت المشاركة الرقمية 36% في تصاعد ملحوظ. الرسالة صادمة في بساطتها: المؤسسات التي تقيس جمهورها تعرفه، والتي لا تقيسه تكتشف اختفاءه متأخرًا.
حين نضع هذه التجارب أمام واقع المجلس الأعلى للثقافة، تظهر فجوة لا تردم بملصق فعالية ولا بمنشور على فيسبوك، هناك دول تبني مسارات وصول واضحة: تطبيقات، أرصدة، شراكات، بيانات، وتقييم مستمر، وهنا نعيد تدوير السؤال الأخلاقي ذاته: لماذا لا يأتي الشباب؟ كأن المشكلة خطيئة ارتكبها الشباب، لا نتيجة مباشرة لقصور مؤسسي مزمن.
الشباب لا يريدون دعوة رسمية للحضور، ولا مقعدًا في الصفوف الخلفية، هم يريدون أن يشعروا أن المكان لهم، أن يجدوا لغتهم، وقضاياهم، وفنونهم، وأسئلتهم في قلب المؤسسة لا على هامشها، يريدون ثقافة تعترف بهم شركاء لا متلقين، ومصدرًا للحياة لا بيانًا رسميًا.
إن استعادة الشباب لا تحتاج استدعاءً ولا خطبة، بل قرارات حادة: تبدأ بتغير أمينها الحالي حقيقية لا رمزية، مشاركة فعلية في التخطيط لا ديكورًا استشاريًا، انتقال جاد إلى الفضاء الرقمي، قياس معلن ودوري، وفتح الأبواب للفنون الجديدة دون خوف، فالثقافة التي تخشى التغيير تفقد شبابها، والمؤسسة التي لا تصغي تتحول — مهما كان اسمها —إلى صدى باهت في قاعة فارغة.








