و الأخيرة

رئيس مجلس الإدارة
أحمد عصام فهمي
رئيس التحرير
محمود الضبع

الدكتور عبد الحليم قنديل يكتب: غزوة «ترامب» الفنزويلية

موقع الصفحة الأولى

بالطبع ، فإنه لا عاقل ولا مجنون يصدق اتهامات الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" لدولة "فنزويلا" ولرئيسها "نيكولاس مادورو" ، والإدعاء على الأخير بتزعم "كارتل مخدرات" وهمى ، يطلق عليه "ترامب" اسم "كارتل الشمس" ، أو "كارتل دى لوس سوليس" باللغة الأسبانية السائدة فى أغلب دول أمريكا اللاتينية ، والمعروف أن "فنزويلا" ليست محلا مختارا لعصابات المخدرات ، وأن غالب التقارير حتى الأمريكية المعنية تورد أسماء دول أخرى ، تتهمها بتوريد المخدرات إلى أمريكا ، أهمها عصابات "الكوكايين" و"الفنتانيل" فى "كولومبيا" و"المكسيك" ، وحتى من "كندا" شمال الولايات المتحدة ، لكن ترامب يحشر اسم "فنزويلا" و"مادورو" لأسباب أخرى ظاهرة ، أهمها أن "فنزويلا" بلد عظيم الموارد الطبيعية والمعدنية ، وأنها ـ أى "فنزويلا" ـ صاحبة أكبر احتياطى بترول مثبت فى الدنيا كلها ، ولديها احتياطات هائلة من الذهب والمعادن الثمينة النادرة ، و"ترامب" يريد الاستيلاء على "فنزويلا" لنهب مواردها الاقتصادية ، وإزاحة "مادورو" بسبب ميوله الوطنية الاجتماعية اليسارية ، والعلاقات التى ينسجها نظامه مع الصين وروسيا وحتى إيران ، وقد تعرض البلد اللاتينى على "بحر الكاريبى" لعقوبات متصلة من الإدرارت الأمريكية المتتابعة قبل رئاسة "ترامب" الثانية ، كادت تخنق اقتصاد "فنزويلا" تماما ، وهبطت بتصدير بترول "فنزويلا" إلى أقل من الثلث ، رغم امتلاكها لاحتياطى بترولى بلا نظير ، تبلغ تقديراته أكثر من 300 مليار برميل ، وكانت الشركات الأمريكية خاصة "شيفرون" تقوم بأعمال التنقيب والتطوير والاستخراج ، قبل أن تتعرض "فنزويلا" لحصار وخنق أمريكى ، كان سببا فى تقادم بنيتها البترولية الأساسية ، وتهالك خطوط الأنابيب ، وكانت تصدر بترولها غالبا إلى الولايات المتحدة ، قبل أن تهبط مستويات الإنتاج ، وتكون الصين هى المشترى الأكبر لبترولها ، وبعقود قصيرة الأجل .


وفى العقود الثلاثة الأخيرة ، تصاعدت دراما العصف الأمريكى بالنظام الحاكم فى "فنزويلا" ، وبالذات بعد فوز الكولونيل "هوجو شافيز" بالرئاسة فى انتخابات حرة أواخر عام 1998 ، وكان "شافيز" عظيم التأثر بزعماء ورموز حركات التحرير الوطنى العالمية ، وأعلن مرات عن اقتدائه بفكر وسيرة "جمال عبد الناصر" بالذات ، وكان يعتبر نفسه "ناصريا" بامتياز ، ومزج مثال "عبد الناصر" مع ذكرى القائد اللاتينى التاريخى "سيمون بوليفار" ، الذى يعرف فى دراما أمريكا اللاتينية بصفة "المحرر" ، وكان من مواليد "كاراكاس" عاصمة "فنزويلا" الحالية ، وقاد ثورة طويلة المدى ضد استعمار الإمبراطورية الأسبانية ، وحرر دول "فنزويلا" و"الإكوادور" و"بيرو" و"بوليفيا" ، وأسس وترأس دولة "كولومبيا" الكبرى ، وإلى أن توفى عام 1830 عن 47 سنة ، وانفصلت بعده "فنزويلا" عن "كولومبيا" ، ورغم أنه لم يحقق أهدافه بالكامل فى تحرير وتوحيد دول أمريكا اللاتينية ، إلا أنه ظل رمزا ملهما لحركات التحرير واتجاهات اليسار فى التاريخ الحديث والمعاصر لأمريكا الجنوبية ، وبالذات فى دولها المطلة على "بحر الكاريبى" ومنها "فنزويلا" ، وهو ما يفسر إطلاق "شافيز" لاسم "الحركة الإشتراكية البوليفارية" على حزبه ، الذى انتسب إليه "مادورو" ، وقد كان "سائق حافلة" وناشطا نقابيا بارزا ، وفى سنة 2013 ، توفى "شافيز" بعد صراع طال لعامين مع داء السرطان ، وكان "مادورو" قد عمل فى طاقم "شافيز" المقرب ، وشارك فى مواجهة وهزيمة انقلابين دبرتهما واشنطن ضد "شافيز" ، واختاره "شافيز" لمنصب وزير الخارجية ثم نائبا للرئيس ، وإلى أن خلف زعيمه "شافيز" فى رئاسة "فنزويلا" ذات الأربعة والثلاثين مليون نسمة ، وفى قيادة حركته "البوليفارية" ، التى تواصل برنامجها المنحاز اجتماعيا للفقراء والطبقات العاملة ، رغم تراجع وانكماش الدخل العام للبلد المعتمد أساسا على تصدير البترول ، والتضاعف الفلكى لمعدلات التضخم إلى ما يفوق الألف بالمئة سنويا.

حكم شافيز

وكما تعرض حكم "شافيز" لانقلابات ضده دبرتها المخابرات المركزية الأمريكية ، واستطاع التغلب عليها بفضل شعبيته الهائلة وروحه الثورية "الكاريزمية" ، فقد تعرض خليفته "مادورو" مرات لخطر الانقلابات ذاتها ، ومن ذات المصادر الأمريكية والغربية عموما ، ودارت الانقلابات الجديدة من حول التشكيك فى نتائج الانتخابات الرئاسية بالذات ، التى فاز فيها "مادورو" بما فوق الخمسين بالمئة من الأصوات رسميا ، وتعددت فيها الأسماء المناوئة المتحدية لرئاسته ، وأهمها "خوان جوايدو" الذى كان رئيسا لبرلمان "فنزويلا" ، وادعى فوزه بانتخابات الرئاسة عام 2018 ، وشكل ما أسماه حكومة مؤقتة فى يناير 2019 ، لكن حلفاء "جوايدو" وأحزاب المعارضة الثلاثة الكبرى ، قرروا حل حكومته فيما بعد ، وهرب "جوايدو" المؤيد أمريكيا وأوروبيا إلى المنفى ، وفى انتخابات الرئاسة الأخيرة وبعدها ، برز اسم "ماريا ماشادو" ، التى أعطوها جائزة "نوبل" للسلام لتلميع صورتها الباهتة ، ويسعى "ترامب" لتنصيبها بعد إزاحة "مادورو" بالقوة المسلحة ، وحشد لتحقيق هدفه أكثر من 15 ألف جندى أمريكى من القوات الخاصة فى قاعدة "بورتريكو" ، مع جيش عسكرى بحرى فى "الكاريبى" ، تقوده أكبر حاملة طائرات أمريكية "جيرالد فورد" ، إضافة لخطط سرية للمخابرات الأمريكية ، أعلنها "ترامب" بنفسه ، وتستهدف اغتيال "مادورو"  بعد إخفاق "ترامب" فى ترهيب الرئيس الفنزويلى ، ودفعه لقبول النجاة بنفسه وعائلته ، والهرب إلى دولة يتفق عليها ، وهو ما رفضه "مادورو" ، الذى يستعد لمواجهة أى غزو أمريكى برى ، ويعلن مع أنصاره الاستعداد لمواجهة أى حكم عميل تفرضه أمريكا بحرب عصابات طويلة المدى ، وقد لا تفضل واشنطن غزوا بريا تخشى عواقبه ، وتفضل حملات القصف الجوى المكثفة ، مع عمليات المخابرات التى جرى الكشف عن بعضها ، على طريقة محاولة الاتفاق مع طيار "مادورو" الخاص حى الضمير ، وإن كان أحدا لا يستبعد اختراقا أمريكيا لنظام "مادورو" من داخله ، وتدبير انقلاب عسكرى فى "كاراكاس" ، وفى حملة قد تمتد إلى الجوار الفنزويلى فى "كولومبيا" ، ومحاولة إقصاء زعيم كولومبيا اليسارى "جوستافو بيترو" ، الذى حذر "ترامب" علنا من إيقاظ "النمر " اللاتينى ، ربما فى إشارة مفهومة إلى ميراث المحرر "سيمون بوليفار".

وقد لا يتعجب أحد أبدا من سلوك واشنطن ، ولا من أفعال "ترامب" المتناقض ، الذى يتظاهر كذبا بالدعوة إلى السلام وإيقاف الحروب ، بينما يواصل استثارة الشهوات فى إشعال الحروب ، وكما حارب أسلافه فى العراق لإسقاط "صدام حسين" ، وحارب هو نفسه لإسقاط النظام الإيرانى ، فلا يستبعد أن يواصل سلاسل العدوان فى أمريكا اللاتينية ، التى تعتبرها واشنطن حديقتها الخلفية الخاصة منذ إعلان "مبدأ مونرو" عام 1823 ، نسبه إلى الرئيس الأمريكى وقتها "جيمس مونرو" ، وكانت واشنطن وقتها تحارب القوى الاستعمارية الأوروبية ، وتحرم عليها التوسع فى أمريكا الجنوبية ، وتفرض وصاية أمريكية حصرية على الأمريكتين شمالا وجنوبا ، ثم تحول "مبدأ مونرو" مع الرؤساء الأمريكيين اللاحقين ، وصار يفترض لواشنطن وضع "الشرطة الدولية" ، التى اتسع نطاق عملها وهيمنتها ، من نصف الكرة الغربى إلى الدنيا كلها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، ونهوض واشنطن بدور قيادة العالم الغربى الاستعمارى إجمالا ، وامتداد مفهوم "الشرطة الدولية" إلى الجنوب العالمى كله ، وتوريط القوة الأمريكية فى عشرات الحروب على الصعيد الدولى ، من "فيتنام" إلى "أفغانستان" وإلى حرب "أوكرانيا " ، وكلها حروب لم تفز فيها واشنطن بنهاية المطاف ، وإن كانت الانقلابات الأمريكية لم تتوقف أبدا فى أمريكا اللاتينية ، وبعشرات الحالات من انقلاب "جواتيمالا" عام 1954 ، إلى انقلاب "شيلى" عام 1973 ، وإلى عودة للهواية والغواية المدمرة نفسها مع رئاسة "ترامب" الأولى والثانية ، وتكرار استهداف الحكومات اليسارية الديمقراطية ، وبالذات فى "كولومبيا" و"فنزويلا" ، وربما يأتى الدور على البرازيل أكبر دول أمريكا اللاتينية ، مع خصومة "ترامب" الثأرية الظاهرة للرئيس البرازيلى "لولا دا سيلفا" ، ومن المعروف أن حكومات اليسار اللاتينى تجمع إلى العناد مع أمريكا عداء محتدما مع كيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، برز للعيان فى التنديد الجدى بمجازر الإبادة الجماعية الأمريكية "الإسرائيلية" فى "غزة" والضفة ولبنان ، إضافة لأدوار حكومات اليسار اللاتينى وحواضنها الشعبية فى الانتفاضة العالمية الجماهيرية ضد الظلم والطغيان الأمريكى "الإسرائيلى" ، وفى التقارب الظاهر مع الصين وروسيا وغيرهما من دول حلف "الشرق الجديد".

وقد لا نشهد دورا عسكريا مباشرا بارزا للصين أو لروسيا فى مواجهة العدوان الأمريكى على "فنزويلا" وضد رئيسها الوطنى اليسارى "مادورو" ، وقد يكون السبب فى اختلاف نطاقات الدور العسكرى الصينى والروسى ، لكن الانقلاب على "مادورو" حتى لو نجح ، فقد لا يعنى فوزا أمريكيا قابلا لاستقرار ولا لدوام ، ولا حتى جلبا لعطف الداخل الأمريكى على "ترامب" ، الذى يهرب من تراجع شعبيته الداخلية إلى غزوات ومغامرات خارجية ، لن تحقق بالضرورة أهدافها المكشوفة ، خصوصا مع وعى شعوب أمريكا اللاتينية بالطبيعة "الطاعونية" للدور الأمريكى وانقلاباته المصنوعة ، التى أفنت عشرات الملايين من أبنائها ، وسرقت ثرواتها ومواردها الطبيعية الغنية ، ولا تزال تفعل "عينى عينك" حتى إشعار آخر.
[email protected]

تم نسخ الرابط