في تقرير لمؤسسة ماعت
أصوات من تحت الحصار: شهادات حية من سكان قطاع غزة..نأكل علف الحيوانات

في ظل الحصار الخانق والمجاعة الإنسانية التي يواجهها قطاع غزة، تتجلى المأساة الحقيقية في أصوات الضحايا أنفسهم، فالشهادات الحية التي أدلى بها عدد من المدنيين في قطاع غزة لمؤسسة "ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان"، ترسم صورة صادمة لانهيار كامل للأمن الغذائي، وتؤكد أن سياسات التجويع لا تمارس بصورة عشوائية، بل تأتي في إطار ممنهج يُشكل انتهاكا صارحًا للقانون الدولي الإنساني.
تقرير ماعت الذي جاء بعنوان "التجويع كسلاح..مسؤولية إسرائيل عن الإبادة الجماعية في قطاع غزة"، يوثق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين، من خلال شهادات مباشرة لضحايا العدوان في مختلف مناطق القطاع تضع العالم أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وتكشف حجم المعاناة اليومية الناجمة عن سياسة التجويع الممنهجة التي تمارسها قوات الاحتلال في دير البلح.
"قصفت مجموعة من النساء والأطفال بينما كانوا في طابور انتظار للحصول على مكمل غذائي لأطفالهن، مما أدى إلى مقتل 16 امرأة و 13 طفلا، كانت النساء واقفات، بعضهن يحملن أطفالهن، وأخريات يرضعن حديثي الولادة، لا يحملن سوى أمومة وأمل في البقاء، كانت الجريمة تبدأ برغيف وتنتهي بمجزرة"
وفي شهادة أخرى، يروي أحد السكان مشهد الأطفال الذين يتوسلون من آبائهم “عطيني رغيف حتى يأتينا الطحين"، وقد أصبح الخبز عملة مؤجلة والجوع واقعا لا يحتمل، يتحدث رب أسرة عن بكائه المتكرر حين لا يجد ما يمنحه لجاره سوى حفنة عدس أو بطاطا حلوة بالكاد تكفي وجبة واحدة لعائلة كاملة، ويجبر على تجاهل اتصالات الاستغاثة اليومية لعدم توفر ما يسد رمق المحتاجين.
نأكل من النفايات
"نقف في طوابير طويلة أمام المخابز منذ الفجر، وغالبا نعود بلا شيء، المياه مقطوعة، والمساعدات لا تصل إلا نادرا، وإن وصلت تقصف وهي في طريقها إلينا"، شهادة مواطن آخر من خان يونس، 10 يوليو 2025
أما الأمهات، فقد عبرن عن شعورهن بالعجز التام، كانت أمومتهن خيانة في وجه الجوع، حين لا يستطعن توفير لقمة الأطفالهن "هل تشعرون بثقل الجوع في قلبي؟ بعجزي كأم؟ هل تسمعون صوت بطون أطفالي الخاوية" تسأل إحدى الأمهات والدموع تسبق الكلمات.
"لم نعد نبحث عن الطعام بل عن فتات الخبز أو بقايا وجبة في النفايات، أطفالي يبكون من الجوع، ولا أستطيع فعل شيء سوى أن أضمهم وأبكي معهم"،أم من سكان مخيم جباليا. 4 يوليو 2025.
هذا الواقع لا يندرج فقط تحت عنوان الأزمة الإنسانية بل يشكل برهانا دامغا على انتهاك المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، والتي تحظر استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب، إن هذه الشهادات ليست مجرد روايات فردية بل تعد توثيقا حيا للقتل الممنهج، يستهدف المدنيين بشكل مباشر ويلقي الضوء على الحاجة الملحة للتحقيق الدولي والمساءلة الفورية.
"طفلتي الرضيعة فقدت وزنها بشكل مرعب، والطبيب قال إنها تعاني من سوء تغذية حاد لا حليب، لا طعام خاص للأطفال، ولا كهرباء لتشغيل الأجهزة الطبية"،نازحة في مدرسة تابعة للأونروا. 13 يوليو2025
تمثل هذه الشهادة توثيقا مؤلما لحالة الانهيار الكامل في مقومات الحياة الأساسية في قطاع غزة، لا سيما للأطفال الرضع الذين يفترض أن يتمتعوا بحماية خاصة بموجب القانون الدولي الإنساني، واتفاقية حقوق الطفل (المادة (24) التي تنص صراحة على حق الطفل في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة، بما في ذلك الحصول على الغذاء الكافي، والرعاية الطبية، والدواء.
غياب الحليب والأغذية المخصصة للأطفال، فضلا عن انقطاع الكهرباء عن الأجهزة الطبية، بعد انتهاكا واضحا لأطراف النزاع، وخرقا للمبادئ الأساسية للقانون الدولي، وعلى رأسها مبدأ التناسب والتمييز في الهجمات، ومبدأ الحماية الخاصة للفئات الأكثر صعفا، فهذه الشهادة تجسد كيف تحولت مراكز الإيواء التي تفترض أن تكون ملاجئ إنسانية، إلى نقاط تعذيب بطيء للحياة، في ظل تقاعس دولي متزايد عن ضمان ممرات آمنة وتوريد مستدام للمساعدات الإنسانية.
“ما نعيشه هو موت بطيء، نسمع عن المؤن في الإعلام، لكننا لا نراها الناس تقتات على علف الحيوانات، وأحيانًا على الحشائش، كي لا تموت"مزارع من دير البلح 16 يوليو 2025
وإذ يتم الحديث عن دخول مساعدات إنسانية عبر وسائل الإعلام دون أن تصل فعليا إلى السكان، فإن ذلك يشير إلى وجود قيود ممنهجة ومتعمدة على وصول الإغاثة، بالمخالفة للمادتين 55 و 59 من اتفاقية جنيف الرابعة، اللتين تلزمان سلطات الاحتلال بضمان إيصال المؤن والإغاثة الإنسانية للسكان المدنيين في مناطق النزاع.
فإن هذا الموت البطيء الذي وصفته الشهادة لا يمثل حالة فردية، بل هو انعكاس السياسة عقابية جماعية محظورة بموجب القانون الدولي. ويستوجب تحركا عاجلا من . المجتمع الدولي لوقف هذا الانهيار الإنساني ومنع ارتكاب مزيد من الانتهاكات الجسيمة بحق سكان غزة.
وفي هذا السياق صرح أيمن عقيل، الخبير الحقوقي ورئيس مؤسسة ماعت، قائلًا: “أن ما تشهده غزة اليوم ليس مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة مستمرة بحق الإنسانية، الحصار الشامل والتجويع المتعمد والهجمات العشوائية على المناطق المدنية تمثل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات
وأكد عقيل، على أن "ما يجري في قطاع غزة يمثل انتهاكًا صارخًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني، وخاصة مبدأ التناسب والتمييز في استخدام القوة، ومبدأ حماية السكان المدنيين، وعلى المجتمع الدولي أن يدرك أن صمته إزاء هذا الحصار الممتد والمجاعات المصطنعة يغذي ثقافة الإفلات من العقاب، ويُعيد إنتاج دوائر العنف في المنطقة".
أما الدكتور شريف عبد الحميد، نائب رئيس مؤسسة ماعت، فأكد أن التقرير يشكّل جزءًا من الجهود التوثيقية التي تبذلها المؤسسة لرصد وتوثيق جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة، وأضاف: “نهدف من خلال هذا التقرير إلى تعزيز المساءلة الدولية، والضغط من أجل فتح تحقيقات جدية أمام آليات الأمم المتحدة والمحاكم الدولية المختصة، والعمل على توفير الإغاثة العاجلة لضحايا النزاع.
ويؤكد عبد الحميد أن توثيق هذه الأصوات ليس مجرد توثيق لمعاناة، بل هو فعل مقاومة في وجه الصمت الدولي، ومطالبة عاجلة بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم التي ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية