فى نادى shell pay الأرستقراطى خارج مدينة "ميامى" الأمريكية ، وهو ناد خاص مملوك جزئيا للمبعوث الأمريكى الشهير المقاول "ستيف ويتكوف" ، وبعيدا عن أماكن الاجتماعات الرسمية ، تجرى مفاوضات خطط السلام فى أوكرانيا ، ويمثل روسيا فيها "كيريل ديمترييف" مسئول الاستثمار الخارجى الروسى ، فيما يمثل أوكرانيا كبير مفاوضيها "رستم أميروف" ، وهو مسلم من تتار القرم ، جرى ترحيله مع عائلته من "سمرقند" فى "أوزبكستان" فى أربعينيات القرن العشرين ، وإلى أن صار وجها بارزا فى السياسة الأوكرانية ، وتولى لوقت منصب وزير الدفاع الأوكرانى ، وقد شارك فى أغلب المفاوضات مع الروس منذ بدء الحرب الجارية فى 24 فبراير 2022 ، ولعب دورا جوهريا فى مفاوضات "اسطنبول" الأولى عقب بدء الحرب ، ثم لاحقا فى مفاوضات "اتفاق الحبوب" ، التى تدخل الغرب الأوروبى الأمريكى لإفشالها فيما بعد ، ورغم أن المفاوضات الأمريكية تجرى إلى اليوم بصورة منفردة مع ممثل روسيا وأوكرانيا ، ولم تتطور بعد إلى مفاوضات ثلاثية مباشرة ، يطمع الرئيس الأوكرانى "فولوديمير زيلينسكى" فى الانتقال إليها سريعا ، ويتحدث عن تطورات إيجابية ، إلا أن الروس بالمقابل ، لا يبدون فى عجلة من أمر التفاوض ، ويفضلون التفاهم مع الأمريكيين أولا ، والسعى إلى "خض ورج" مواقف الأوروبيين الداعمين أكثر للرئيس الأوكرانى ، وكسب الوقت اللازم لإكمال حملة الشتاء الروسية العسكرية الجديدة ، وفرض وقائع على الأرض ، ترغم الأوروبيين والأوكران على إعلان استسلام نهائى .
وبعيدا عن مباريات إحصاء النقاط فى خطط السلام الأوكرانى ، وسواء كانت خطة "ترامب" الأولى المؤلفة من 28 نقطة ، أو ما جرى ترويجه عن خفضها إلى 20 نقطة باجتهادات الأوروبيين ، وامتعاضهم من انفراد الأمريكيين بالتفاوض مع الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، فإن النقاط الأهم فى جولات التفاوض كلها ، تدور حول مصير الأراضى الأوكرانية التى سيطر عليها الروس ، وحول الضمانات الأمنية المقررة لأوكرانيا بعد تخليها رسميا عن حلم الانضمام لحلف شمال الأطلنطى "الناتو" ، ثم حول مصير "زيلينسكى" وجيشه بعد الحرب ، وفيما يصر الروس على اعتراف رسمى وواقعى بانضمام الأراضى الأوكرانية المعنية إلى سيادة روسيا ، وبالذات انضمام المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوجانسك وزابوريجيا وخيرسون) ، إضافة لشبه جزيرة القرم التى ضمتها روسيا عام 2014 ، والمناطق الخمس تشكل نحو ربع إجمالى مساحة أوكرانيا البالغة أكثر قليلا من 600 ألف كيلومتر مربع ، وخطة "ترامب" الأولى ذات الثمانية والعشرين نقطة ، التى أعدها "ويتكوف" و"جاريد كوشنير" مع المبعوث الروسى "ديمترييف" ، تسلم للروس بكافة مطالبهم فى الأراضى الأوكرانية ، وتعترف واقعيا وقانونيا بضمها إلى روسيا ، وبالذات فى مقاطعتى الدونباس (دونيتسك ولوجانسك) ، وهى أغنى مناطق أوكرانيا على الإطلاق ، وقد تضمنها قرار مجلس "الدوما" الروسى الصادر أواخر سبتمبر 2022 ، الذى قضى بضم "الدونباس" بمقاطعتيه إلى كامل الحدود الإدارية ، فى حين لم ينص القرار على ضم "خيرسون" و"زابوريجيا" إلى نهاية الحدود الإدارية ، وترك تحديد خط الحدود إلى الوقائع العسكرية على الأرض ، وبعد مرور نحو أربع سنوات على بدء الحرب ، يبدو خط الحدود الجديد مرسوما عند شاطئ نهر "دنيبرو" الذى يشق أوكرانيا طوليا بين شرق روسى وغرب يظل أوكرانيا إلى حين .
وكما فى الحسم الأمريكى لمسألة الأراضى والانحياز الكامل لرغبات وأمنيات روسيا ، بدا أن مبعوث "ترامب" مع خطته ، يوالون انحيازهم لأهداف روسيا فى المسائل الجوهرية الأخرى ، فهم ضد انضمام أوكرانيا لحلف "الناتو" لا فى الحال ولا فى الاستقبال ، ومع خفض عديد الجيش الأوكرانى إلى 600 ألف جندى ، ومع إجراء انتخابات رئاسية تزيح "زيلينسكى" نفسه عن المشهد ، فقد نصت الخطة الأمريكية على إجراء انتخابات أوكرانية رئاسية فى غضون مئة يوم بعد وقف النار ، وقد انتهت مدة "زيلينسكى" الرئاسية قبل أكثر من عام ، وقد تكون للسياسة الأمريكية دواعيها الذاتية لحصار "زيلينسكى" والخلاص منه ، إما لعدم تجاوبه الكامل ، وربما نقص انصياعه لرغبات "ترامب" المالية ، وإما لنزيف السلاح والمال الأمريكى فى أوكرانيا ، والفساد المتفشى المستشرى فى الداخل الأوكرانى ، الذى أفضى لسرقات مهولة من الأسلحة والأموال ، وقد بلغ الدعم الأمريكى والأوروبى المتنوع لأوكرانيا نحو تريليون دولار إلى اليوم ، ويريد "ترامب" استرداد أموال واشنطن عبر الاستيلاء الكلى على مناجم المعادن الثمينة الغنية فى أوكرانيا ، فوق رغبته فى إزاحة عقبة أوكرانيا والذهاب رأسا إلى استثمارات كبيرة مع روسيا وإلغاء العقوبات المفروضة عليها ، وفوق التسليم الأمريكى بانعدام مقدرة الغرب على قلب الموازين فى الميدان الأوكرانى ، أما الروس فيواصلون سرديتهم الأولى ، سواء حول خطايا العهد السوفيتى فى نقل أراضى ومناطق روسية إلى داخل حدود أوكرانيا ، إضافة لتصميم صانع القرار الروسى على وصم السلطة الأوكرانية بالنازية ، وضرورة نزع الطابع النازى للجيش فى أوكرانيا ، واجتثاث مواريث "ستيبان بانديرا" قائد "حركة القوميين الأوكران" ، الذى كان متهما بالتعاون مع النازى فى الحرب الكبرى ضد روسيا ، وقامت المخابرات السوفيتية "كى .جى . بى" بتصفيته فى مخبئه بمدينة "ميونيخ" الألمانية عام 1959 .
وتبدو أوروبا تائهة ضائعة فى الوضع الراهن ، فهى تتخوف من نتائج النصر الروسى فى أوكرانيا ، وتضيق فرصها فى التحرك والتفاوض بعيدا عن واشنطن ، فالاتحاد الأوروبى مقولة اقتصادية بالأساس ، لكن تنوع مراكز القرار فيه يحرمه من فرصة حقيقية لبلورة مسار سياسى وعسكرى مستقل ، وتبدو خطط الأوروبيين غاية فى الارتباك ، فالإرهاق الاقتصادى والمالى الناتج عن حرب أوكرانيا لا يستبقى موارد كافية لتسليح مستقل ، وإغراء "ترامب" بالدفع نقدا مقابل الأسلحة الأمريكية الذاهبة للميدان الأوكرانى ، لا يبدو مشبعا لتغول الشهية الأمريكية ، خصوصا مع ظهور الرغبة الأمريكية العارمة فى التخلى عن أوروبا ، واعتبار استراتيجية الأمن القومى الأمريكى الجديدة لروسيا كصديق ضمنى وليس تهديدا ، مقابل اعتبار أوروبا خطرا وربما عدوا ضمنيا ، والانتقاد الحاد المغلظ للسياسات الأوروبية ، والقول أنها تسير فى طريق الانتحار ومحو حضارة الغرب ، وكل ذلك مما يزيد أوروبا ارتباكا ، فهى لا تملك رفاهية الاستقلال الأمنى عن واشنطن ، ولم تفلح زيادات موازنات السلاح الأوروبية ، ولا تلبية أوروبا لشروط واشنطن الجائرة فى المعاملات التجارية ، ولا الخضوع لطلبات "ترامب" فى زيادة مستوردات البترول والغاز الأمريكى الأغلى أضعافا عن نظيره الروسى ، وهكذا تضيع أوروبا فى دوامات الحيرة ، فلا هى قادرة على الابتعاد الكلى عن واشنطن ، ولا بوسعها تقديم بديل مقنع لدعم أوكرانيا فى حرب تبدو منتهية لصالح الروس ، ومن ثم بدت أوروبا وكأنها تقدم رجلا وتؤخر أخرى فى المفاوضات الجارية .
عملية التصليب
وقد حاول الأوروبيون تصليب موقف "زيلينسكى " فى جولات بحث خطط السلام الأمريكية ، وركزوا على قصص تقديم الضمانات الأمنية لأوكرانيا بعد الحرب ، وتحدثوا عن تصورات لإرسال اختيارى لقوات أوروبية إلى ما يتبقى من الأراضى الأوكرانية ، وبذلوا ضغوطا لفظية على واشنطن للمشاركة فى تقديم الضمانات الأمنية ، لكن أمريكا لا تبدو مستعدة لاستجابة مؤثرة ، وتراعى اعتبارات رفض الروس الكلى لوجود أى قوات أوروبية أو أمريكية على الأراضى الأوكرانية ، وهو ما يدفع الأوروبيين إلى ما يشبه اليأس ، رغم أنهم يحاولون فتح طريقهم الخاص إلى حوار مع "بوتين" ، على طريقة إعلان الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون" عن استعداده مجددا للقاء مع الرئيس الروسى ، وهو ما رحبت به موسكو فى إغراء سياسى ظاهر ، خصوصا أن اجتماعات قمة الاتحاد الأوروبى الأخيرة ، فشلت فى تقرير سرقة الأصول الروسية المجمدة فى "بروكسل" عاصمة الاتحاد ، وتقديمها كما ادعوا لإعادة إعمار أوكرانيا ، واعتمد القادة الأوروبيون قرارا بديلا ، تعهدوا فيه بتقديم قروض جديدة لأوكرانيا بقيمة 90 مليار يورو ، مع خلاف على طريقة استرداد القروض ، بعد رفض اقتراح استعادتها من الأصول الروسية المجمدة البالغة نحو 300 مليار دولار ، وهو ما ردت عليه روسيا مرارا ، وأكدت عزمها على الرد بإجراء فى الاتجاه العكسى ، ومصادرة الأصول الأوروبية داخل روسيا .
والأهم مما يجرى فى كواليس التفاوض ، أن الوقائع العسكرية على الأرض تمضى باطراد لصالح روسيا ، التى لم تعد تكتفى بالسيطرة على "القرم" والمقاطعات الأربع فى غالبها ، بل تزيد مساحات سيطرتها المستجدة فى مقاطعات "سومى" و"دنيبروبتروفسك" و"ميكولاييف" و"خاركيف" ، وقد استعادت القوات الروسية مؤخرا سيطرتها على مدينة "كوبيانسك" فى مقاطعة "خاركيف" ، وتقدمت لسيطرة تامة مفاجئة على "سيفرسك" فى غرب مقاطعة "دونيتسك" ، وانفتح الطريق أمامها للسيطرة لاحقا على مدينتى "كراماتورسك" و"سلافيانسك" بعد التقدم المستمر داخل "بوكروفسك" و"ميرنوجراد" ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن التفاوض حول سلام أوكرانيا سيظل معلقا لوقت إضافى ، فلا أحد يكسب على موائد التفاوض بأبعد مما تصل إليه الأقدام وجنازير الدبابات فوق الأرض .








