ما أشبه اليوم بالأمس القديم.. تتشابه الأحداث.. لكن المواقف وردود الأفعال غير متشابهة!!
في الزمن العربي الجميل، زمن العروبة.. ووطني حبيبي الوطن الأكبر، و"أموت أعيش ميهمنيش.. وكفاية اشوف علم العروبة باقي"، أو كما قال الفلاح المصري محمد أبو سويلم (محمود المليجي في فيلم الأرض)
" كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة".
هذا الزمن.. زمن الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت العروبة وحب العربي للعربي هي الغالبة.. زمن "أنا واخويا على أبن عمي، وانا وابن عمي على الغريب".
وفي الشدائد تظهر المعادن.. في ذلك السياق كانت قمة الخرطوم والمعروفة بقمة اللاءات الثلاثة والتي عقدت في أعقاب هزيمة يونيو 1967.. نموذجا لم يتكرر للوحدة والمحبة العربية من المحيط إلى الخليج.
قمة الخرطوم.. أخر مرة يتفق فيها العرب
في هذه القمة ورغم الخلاف السياسي بين القاهرة والرياض لم يتخلف أحد، ولم يغادرها أحد.
كانت أول وأخر قمة يتفق فيها العرب ويتصالحون فيما بينهم ومع أنفسهم.
كان كل شيء فيها جميل يحمل كل المعاني الشعرية والأدبية التي يمكن أن يكتبها شاعر أو أديب.. من الاستقبال الشعبي حتى القرار الختامي للقمة.
في التاسع والعشرون من أغسطس العام 1967، عقد بالعاصمة السودانية الخرطوم القمة العربية الرابعة لمناقشة آثار العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن..
رئيس الوزراء السوداني محمد أحمد المحجوب رفض الحصول على 13 مليون دولار من ملك السعودية فيصل بن عبد العزيز آل سعود لاستضافة القمة، وقال:" أتكرمنا في عقر دارنا يا جلالة الملك".
الشعب السوداني خرج للشوارع ينحر الأنعام في كل شارع يمر به موكب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وأخيه الملك فيصل الذي رفع يديه للشعب السوداني يستجديه الكف عن نحر الأنعام، فما كان من السودانيين إلا أنهم حملوا سيارة الشقيقين "الملك والرئيس" من شارع النيل حتى القصر الجمهوري مرددين "شعب واحد.. أمة واحدة.. لا خلاف بيننا".
في هذي القمة قال الملك السعودي العروبي المحترم فيصل بن عبد العزيز آل سعود كلمته الشهيرة رغم الخلاف السياسي بين القاهرة والرياض " أخي جمال.. مصر تأمر لا تطلب".
في هذه القمة تقررت اللاءات الثلاثة «لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات معها»، والإصرار على أحقية الشعب الفلسطيني ببلاده.. ودراسة استخدام النفط كروقة ضغط.
وأكدت القمة على وحدة الصف العربي ووحدة العمل المشترك، وضرورة التنسيق والقضاء على جميع الخلافات. وتوحيد جميع الجهود السياسية على الصعيد الدولي والدبلوماسي للقضاء على آثار العدوان الإسرائيلي على أساس أن الأراضي المحتلة هي أراضي عربية، وأن عبء استعادة هذه الأراضي يقع على عاتق جميع الدول العربية.
واتفق رؤوسا الدول العربية على اتخاذ التدابير اللازمة لتعزيز الاستعداد العسكري لمواجهة كل الاحتمالات، والمقترح الكويتي بإنشاء الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وضرورة الإسراع في القضاء على القواعد الأجنبية في الدول العربية.
كان من أبرز نتائج قمة الخرطوم تقديم كل من السعودية والكويت وليبيا دعما ماليا سنويا للدول المتضررة من العدوان الإسرائيلي حيث خصص مبلغ 147 مليون جنيه إسترليني لكل من مصر والأردن، تحصل القاهرة على 104 مليون جنيه إسترليني، والأردن على 43 مليون جنيه إسترليني.
ألمانيا توقف تصدير الأسلحة لإسرائيل
الموقف العربي الواحد يتواصل، فقد سبق قمة الخرطوم المبدعة موقف عربي جامع أجبر ألمانيا الغربية في ذلك الوقت على التراجع عن قراراها بتزويد الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة.
في الثالث عشر من مايو عام 1965 قرر الرئيس جمال عبد الناصر قطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية فور إعلانها في ذات اليوم إقامة علاقات دبلوماسية مع الاحتلال الإسرائيلي وتزويده بالأسلحة..
الموقف الألماني يأتي منطلقاً من مقولة وزير الخارجية الألماني فرانك- فالتر شتاينماير، أحد أركان الدبلوماسية الألمانية "ألمانيا تتحمل مسؤولية خاصة تجاه دولة إسرائيل، تجعلها ملزمة بالدفاع عن وجود إسرائيل وحماية حقها في الوجود".!!
وكانت القاهرة قد كشفت في السابع من فبراير عام 1965 عن إبرام بون "عاصمة ألمانيا الغربية في ذلك الوقت" صفقة سرية مع الكيان الصهيوني تقدم خلالها أسلحة ومساعدات اقتصادية لإسرائيل، وهو ما يعد تهديدا للعرب يتطلب إعادة النظر في علاقتها مع ألمانيا الغربية.
في الرابع عشر من مارس 1965، عقد وزراء الخارجية العرب اجتماعا بمقر الجامعة العربية بالقاهرة عرض خلاله وزير الخارجية المصري محمود رياض تقريرا مفصلا عن تلك الصفقة السرية الاقتصادية العسكرية التي حصلت المخابرات العامة المصرية عليها.
وأوضح رياض في تقريره الدور الألماني في دعم إسرائيل بالمال تحت ستار التعويضات لليهود الذي أضيروا أثناء حكم النازية، لإنقاذ الاقتصاد الإسرائيلي الذي كان على وشك الانهيار، ثم أخيرا الدعم العسكري الضخم الذي يهدد الأمن العربي.
وكشف رياض لنظرائه العرب عن تفاصيل مقابلاته مع السفير الألماني بالقاهرة والذي كشف لرياض أن بلاده قدمت هذه المساعدات تحت ضغوط أمريكية شديدة، فأبلغه الوزير المصري أن إقامة ألمانيا علاقات مع إسرائيل يعني استمرارها في الخط المعادي للعرب.
اجتماع وزراء الخارجية العرب أسفر عن قرارين:
أولا - سحب جميع السفراء العرب من بون فورا، وقطع علاقات الدول العربية الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية في حالة إقامتها لعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
ثانيا - إعلان التضامن مع مصر في موقفها، ولجوء الدول العربية إلى قطع علاقاتها الاقتصادية مع ألمانيا في حالة إصرارها على اتخاذ موقف عدائي من أي دولة عربية.
وتحفظت على القرار المغرب، وتونس، وليبيا.. فيما أعلنت 8 دول عربية قطع العلاقات وهي: "مصر، والسعودية، وسوريا، والأردن، والعراق، والكويت، والجزائر، واليمن، ولبنان".
كما قررت الأردن منع استيراد البضائع من ألمانيا الغربية، وقرر مجلس الأمة الكويتي وضع إمكانيات الكويت لمساندة مصر، باستثمار أموال الكويت في البنوك المصرية بدلا من الدول الاستعمارية.
وأمام تلك الموجة العربية تراجعت ألمانيا عن قطع العلاقات الاقتصادية مع مصر وحظر تصدير الأسلحة لإسرائيل.
أما اليوم.. فألمانيا الموحدة تناصر حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وتعد ثاني دولة مصدرة للأسلحة لإسرائيل فوفقا لأرقام معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام فإن ألمانيا قدمت حوالي 30 في المئة من المساعدات العسكرية لإسرائيل خلال الفترة من 2019 إلى 2023.. وزادت موافقات الصادرات الدفاعية إلى إسرائيل نحو عشرة أضعاف حيث بلغت في عام 2023 ما يصل لـ 326.5 مليون يورو (351 مليون دولار).
ووفقا لوكالة الأنباء الألمانية فإن برلين منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي تصفه الوكالة بالرد الإسرائيلي على هجوم حماس، تعطي أولوية لطلبات تصدير السلاح لإسرائيل التي تزودها برلين في المقام الأول بمكونات أنظمة الدفاع الجوي ومعدات اتصالات، وشملت الأسلحة الألمانية المصدرة لإسرائيل 3000 قطعة سلاح محمول مضاد للدبابات و500 ألف طلقة ذخيرة للأسلحة النارية الآلية أو شبه الآلية ومركبات برية وتكنولوجيا تطوير الأسلحة، وتجميعها، وصيانتها، وإصلاحها.
** وحدة ما يغلبها غالب
الوحدة العربية كائن حي بدأت إرهاصاتها الأولى في عام 1948 عندما قامت جيوش ممالك مصر والسعودية والأردن والعراق وسوريا ولبنان بالحرب على العصابات الصهيونية لطردها من فلسطين بعد أن ساعدتهم أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والعديد من الدول الأوروبية على التجمع بها وإنشاء وطن لهم، بدعم من الأمم المتحدة بقرار تقسيم فلسطين إلى دولة صهيونية وأخرى عربية وتدويل القدس وبيت لحم بوضعهما تحت إشراف دولي.
وتجسدت الوحدة في الدعم الذي قدمته كافة الدول العربية لمصر وسوريا في السادس من أكتوبر 1973 لاستعادة الأراضي العربية التي احتلها الكيان الصهيوني، كل قدم ما يستطيع من مال ومعدات عسكرية وجنود، وتم استخدام النفط سلاحاً في المعركة.
الوحدة العربية دفعت وشجعت دولا كثيرة للتضامن مع العرب وقضيتهم، تذكر بعض الروايات التاريخية أنه أثناء انسحاب الرئيس جمال عبد الناصر والوفود العربية من جلسة عامة للأمم المتحدة قبل إلقاء المبعوث الإسرائيلي كلمته، لعدم اعترافهم بهذه الدولة، فقام معهم وفود عدد من الدول غير العربية وقدر عدد الدول بما فيهم العربية بـ 124 دولة، مما جعل الرئيس الأمريكي يقول "عبد الناصر يحكم نصف العالم".
صفحة الوحدة العربية بكتب التاريخ تخبرنا وتؤكد لنا أن الوحدة التي تجاوزت الخلافات وحققت نصر أكتوبر 1973، قادرة على تجاوز الانفصام والخلافات وإعادة الجمع لو أننا وقفنا وقفة رجل واحد، واتخذنا قرار رجل واحد. وقلنا بصوت واحد "أموت.. أعيش.. ميهمنيش وكفاية اشوف علم العروبة باقي.. باقي".